
عربي
لا تزال مشاهد الدمار الشامل تهيمن على مدينة غزة ومحافظات الجنوب، رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار. وتمنع هذه الأوضاع مئات آلاف السكان من العودة إلى بيوتهم أو استعادة حياة قريبة من الطبيعية. وقد تحوّلت الشوارع التي كانت تعج بالحركة إلى خرائط صامتة من الركام، والأسواق التي كانت تفيض بالحياة أصبحت أطلالا تذكّر بعنف المواجهة وشدة الاستهداف.
يحرم هذا التدمير الشامل السكان من العودة، ليس فقط بسبب فقدان المأوى، بل أيضا لانعدام الأمان والبنية التحتية الأساسية، من كهرباء وماء وصرف صحي وطرق صالحة للوصول. وقد تحوّلت الأحياء المحطمة إلى أراضٍ مكشوفة، يستحيل استئناف الحياة فيها دون جهود إعادة إعمار طويلة ومعقدة.
كما يواجه النازحون تحديات عديدة تحول دون عودتهم إلى بيوتهم أو مناطقهم السكنية المدمرة، أبرزها ارتفاع أسعار الإيجار بسبب استغلال المستأجرين ندرة الشقق، وتكاليف النقل الباهظة، وانتظار الاستقرار والخوف من عودة الحرب، إضافة إلى تدمير مقومات الحياة الأساسية في تلك المناطق المهجورة.
يقول الفلسطيني خالد حمودة (38 عاماً)، سائق سيارة أجرة، إنه رغم الازدحام الشديد بين محافظات قطاع غزة، إلا أن نسبة العودة تكاد تكون ضئيلة مقارنة بالعودة الأولى مطلع العام الحالي، نتيجة فقدان معظم الأهالي لمنازلهم بعد مغادرتها بفعل التهديدات الإسرائيلية قبل نحو شهر.
ويضيف لـ"العربي الجديد" أن "الدمار ليس الأزمة الوحيدة أمام العائدين، فهناك الكثير ممن فقدوا بيوتهم عادوا ونصبوا الخيام على أنقاضها، ناهيك عن تحديات أخرى تتمثل في الوضع الاقتصادي الصعب وعدم قدرتهم على دفع تسعيرة المواصلات المرتفعة، والتي تعود لغلاء أسعار الوقود وقطع الغيار".
ويشير إلى أن "خوف الناس من القادم من بين الأسباب التي تؤخر عودتهم، خاصة بعد أن استنزف النزوح الأخير ما تبقى لديهم من أموال"، مضيفا "يخشى الناس انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، وأن يضطروا للنزوح مجددا، وهو ما لا يمكن تكراره نتيجة عدم قدرتهم على دفع تلك المبالغ مجددا".
ونتيجة تلك الأسباب، تجد العائلات التي لا زالت تحتفظ بمساكن صالحة نسبيا نفسها عاجزة عن العودة، بسبب تكاليف النقل الباهظة التي تضاعفت جراء الانتقال من مناطق النزوح في الوسطى أو الشمال أو مناطق اللجوء في المدارس والمخيمات المؤقتة نحو الجنوب أو العكس.
من ناحيته، يوضح الستيني الفلسطيني خليل السكني، وهو من سكان حي الشيخ رضوان، أنه ذاق ويلات النزوح المتكرر داخل مدينة غزة وفي باقي المحافظات، في ظل مرضه وعدم قدرته على الحركة، وفي ظل النقص الشديد في الأدوية التي من شأنها تخفيف أوجاعه.
ويبين السكني لـ"العربي الجديد" أنه لا يزال ينتظر داخل مدرسة إيواء تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لرؤية ما ستؤول إليه الأوضاع. ويقول: "لا زلنا في دوامة من الخوف والترقب، لذلك ننتظر على أمل وضع حد نهائي لمأساتنا، وفي الوقت ذاته نأمل أن تنخفض أسعار المواصلات حتى نتمكن من إعادة أمتعتنا".
وفي خضم هذا المشهد، يُحرم آلاف من العودة، سواء بسبب دمار الشقق التي كانوا يقطنونها، أو بسبب استغلال بعض مالكي العقارات للوضع، ورفع الإيجارات بشكل جنوني يفوق قدرة الأسر المتضررة التي تفاجأت بالأسعار الخيالية من أصحابها الذين استغلوا قلة الأماكن الصالحة للسكن تزامنا مع زيادة الطلب.
وتوضح الفلسطينية ياسمين صبيح (41 عاما) أنها نزحت برفقة أسرتها المكونة من سبعة أفراد من حي الشجاعية إلى حي النصر بعد تدمير بيتهم، ومن ثم إلى مدينة دير البلح بعد التهديد الإسرائيلي بإخلاء المدينة، وقد شعرت بالفرحة الكبيرة عند سماعها أنباء التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
وتبين صبيح لـ"العربي الجديد" أن مشاعر الفرحة تبدّلت إلى حزن بعد أن تواصل زوجها مع صاحب الشقة التي استأجرها بعد تدمير المنزل، حيث أخبره المؤجر أن السعر تضاعف ثلاث مرات، بحجة تعرض الشقة لأضرار كبيرة. وتلفت صبيح إلى أن هذا الارتفاع الجنوني في سعر الإيجار أجّل عودتهم التي كانوا ينتظرونها على أحر من الجمر، على أمل تحسّن الأوضاع والعثور على شقة بسعر يتناسب مع أوضاعهم الاقتصادية الصعبة، والتي ازدادت سوءا بعد استنزاف الحرب لكل مدخرات أسرتها.
ورغم وقف إطلاق النار، لا يزال كثيرون يتريثون في العودة، خشية تجدد العدوان أو انهيار الاتفاق في أي لحظة. ذاكرة الحرب القريبة، وحجم الخسائر، جعلت السكان أكثر حذرا، فالعديد من العائلات تفضل البقاء في أماكن النزوح أو مع الأقارب على العودة إلى مناطق لا تزال تُعتبر أهدافا محتملة أو غير آمنة بالكامل.
تقول النازحة نعيمة الشيخ لـ"العربي الجديد"، إن وقف إطلاق النار رغم أهميته البالغة إلا أنه لم يغير واقعها، حيث لا يزال الخوف والقلق يسكن جوانب الخيمة التي أقامها زوجها بمحاذاة بحر مدينة دير البلح، مضيفة: "خلال الحرب تعرضنا لكل أشكال الخذلان، لذلك ننتظر على أمل التأكد من جدية الاحتلال بهذا الاتفاق".
وما يشجع عائلة الخمسينية نعيمة على البقاء في الخيمة رغم التغيرات المناخية ودرجات الحرارة المرتفعة نهارا والمنخفضة ليلا، هو خسارتها لمنزلها في معسكر الشاطئ للاجئين، إلى جانب انعدام كل مقومات الحياة في مدينة غزة من شمالها حتى جنوبها. تقول: "يخبرنا من عاد للمدينة أن الحياة فيها باتت أقسى من حياة النزوح".
كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى شلل شبه كامل في الحياة العامة في مدينة غزة. الأسواق لا تزال مغلقة في أجزاء واسعة، والمدارس مدمرة أو تُستخدم كملاجئ، والخدمات الصحية محدودة بشدة، والقطاع التجاري في حالة جمود، وحتى المؤسسات الإنسانية والخدمية لا تزال خدماتها ضعيفة، بسبب ضعف الإمكانيات والموارد.

أخبار ذات صلة.

الشرع وزيارة الضرورة
العربي الجديد
منذ 5 دقائق