
عربي
في صباحٍ بارد من أكتوبر/تشرين الأول، تلقى الاقتصادي الفرنسي فيليب أغيون مكالمة غير متوقعة من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم: "تهانينا، لقد نلت جائزة نوبل للاقتصاد". في لحظة واحدة، تحول الأستاذ الهادئ الذي كرس حياته لفهم أثر الابتكار في النمو إلى أيقونة فكرية عالمية.
كان صباح استوكهولم هادئا حين التقط فيليب أغيون الهاتف. على الطرف الآخر، صوت هادئ ومفعم بالوقار: آدم سميث، كبير المسؤولين العلميين في مبادرة نوبل للتوعية، يخبره بكلمتين اختصرتا مسيرة عمر:
"ألو فيليب، أنا آدم سميث من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم... تهانينا".
كلمتان خفيفتان كانتا كافيتين لوضع أغيون ضمن القائمة الذهبية لأصحاب نوبل للاقتصاد لعام 2025. لم يكن يتوقعها، بل كان على يقين أن الجائزة ستذهب لغيره، خاصة أنه نال قبل أسبوعين فقط درجة فخرية من جامعة استوكهولم، فظن أن "التكريم الواحد يكفي لعام واحد". لكن المفاجأة وقعت، الأكاديمية قررت أن تمنح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية له بالاشتراك مع جويل موكير وبيتر هاويت، "لشرحهم النمو الاقتصادي القائم على الابتكار". قسمت الجائزة مناصفة بين موكير من جهة، وأغيون وهاويت من جهة أخرى. هكذا وضعت نظرية "النمو عبر التدمير الخلاق" رسميا في قلب علم الاقتصاد الحديث.
جذور من الإسكندرية وروح من المتوسط
قبل باريس وهارفارد، هناك قصة بدأت في الإسكندرية. في تلك المدينة ولدت والدته غابي أغيون عام 1921، المؤسسة اللاحقة لدار كلويه للأزياء الفرنسية. أما والده ريمون أغيون فكان من عائلة إيطالية مصرية مثقفة. عاش الوالدان في الإسكندرية حتى عام 1945، ثم غادرا إلى باريس بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يعش فيليب نفسه في المدينة، لكنه نشأ على حكاياتها، نشأ على مزيج البحر والحرية والتنوع، والناس الذين يعيشون بين العربية والفرنسية والإيطالية بلا حواجز. ذلك الجو المتوسطي المفتوح شكل مبكرا حسه بالانفتاح الفكري، وبأن "الاختلاف يولّد الإبداع". وكأن الإسكندرية لم تفارقه، حتى وهو يشرح في محاضراته اليوم كيف يولد الجديد من تفاعل العوالم المتقابلة.
بين الأرقام والأفكار
درس فيليب الرياضيات أولا في معهد المدرسة العليا العادية بساكليهفي باريس، قبل أن ينتقل إلى السوربون ليتخصص في الاقتصاد الرياضي. الرياضيات منحته الدقة والمنهج، والاقتصاد أعطاه المعنى الإنساني. ومنذ تلك المرحلة بدأ سؤاله الجوهري: كيف يمكن تحويل الابتكار إلى محرك للنمو من دون أن يكون على حساب العدالة الاجتماعية؟
بعدها شدّ الرحال إلى جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، حيث نال الدكتوراه عام 1987. وهناك، في قلب كامبريدج، تفتحت أمامه مدارس الاقتصاد الحديثة. عمل باحثا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم في كلية يونيفرسيتي كوليدج بلندن فكلية هارفارد، قبل أن يعود إلى فرنسا أستاذا في كلية "كوليج دو فرانس"، وكلية إنسياد، وزائرا في كلية لندن للاقتصاد.
لحظة التأسيس
المنعطف الكبير في مسيرته كان عام 1992، حين تعاون مع بيتر هاويت على نشر ورقة علمية بعنوان "النمو عبر التدمير الخلاق" في الجريدة الاقتصادية الأكاديمية "إيكونومتريكا". كانت الورقة بمثابة صدمة علمية جميلة، النمو الاقتصادي لا يعتمد فقط على تراكم رأس المال والعمل، بل على سلسلة من الابتكارات المستمرة. فكل ابتكار يُدخل شيئا جديدا ويزيح ما قبله، وهذه العملية رغم ألمها هي التي تبقي الاقتصاد حيا ومتحركا. وفي نموذج أغيون وهاويت، التكنولوجيا ليست هدية تسقط من السماء، بل ثمرة لجهد بشري ومنافسة داخل الاقتصاد نفسه. لذا، فكل سياسة تمنع المنافسة أو تقفل الأبواب أمام الداخلين الجدد، تطفئ شرارة التقدم.
بين النظرية والسياسة
لم يكن أغيون اقتصاديا منعزلا عن العالم الواقعي. في المقابلات التي تلت الإعلان عن نوبل، تحدث بلغة بسيطة: "المجتمعات تحتاج إلى منافسة عادلة لا تحتكرها جماعات المصالح، وسياسات صناعية ذكية تحفز الابتكار، وشبكات أمان اجتماعي تساعد من يفقدون وظائفهم على الانتقال إلى فرص جديدة".
كان يشير بذلك إلى تجربة الدنمارك في ما يُعرف بـ"المرونة المؤمنة"، أي نظام يعوض العاطلين مؤقتا ويدربهم لإيجاد وظائف جديدة، بدل تركهم ضحايا لآلة التغيير. هذا التوازن بين الحرية الاقتصادية والحماية الاجتماعية هو جوهر رؤيته.
الحلم الذي لم يتوقف
فيليب أغيون لم ير في الجائزة نهاية مسار، بل مسؤولية جديدة. لطالما حلم ببناء اقتصاد "أكثر إنصافا وابتكارا"، وكرس جزءا من أبحاثه الأخيرة لدراسة الذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيره على الإنتاجية والعمل، ضمن لجنة علمية شارك في رئاستها منذ عام 2023. أما طلابه فيصفونه بالأستاذ الذي يبدأ محاضراته بجملة متكررة: "الاقتصاد ليس حسابا للأرقام، بل بحث عن شروط الكرامة في العمل والابتكار".
من استوكهولم إلى باريس
في باريس، حيث يستمر الجدل حول مشروع موازنة 2026، لم يتخذ أغيون مسافة الحياد. فقد دعا إلى تعليق إصلاح التقاعد حتى انتخابات 2027 لتهدئة التوترات الاجتماعية، وأبدى تحفظه على "ضريبة زوكمان" التي تطاول الثروات الكبرى، معتبرا أنها قد تضر بالمناخ الاستثماري. بالنسبة له، لا يمكن فرض ضرائب على أدوات العمل نفسها، بل يجب تصميم سياسات تراعي الابتكار وتوسّع قاعدته. موقفه هذا أعاد تأكيد خط ثابت في شخصيته، الأكاديمي الذي يفكر كصانع سياسات، والباحث الذي يرى في النمو الاقتصادي وسيلة لتوسيع الفرص لا لتكريس الفوارق.

أخبار ذات صلة.

الشرع وزيارة الضرورة
العربي الجديد
منذ 7 دقائق