Arab
قبيل لقائه المرتقب مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب نهاية ديسمبر/كانون الأول الحالي، شرع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في ترتيب أوراق المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل، والعمل على إعادة صياغة أجندة الرأي العام بما يتلاءم مع أهدافه ومصالحه السياسية. وكما فعل مراراً منذ أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بل وقبلها أيضاً، يسعى نتنياهو إلى فرض جدول الأعمال العام وإدارته والتحكّم في أولوياته. وفي هذا السياق، أعاد نتنياهو طرح احتمال استئناف الحرب على إيران والمخاطر التي قد تشكّلها القدرات الصاروخية الإيرانية على إسرائيل، إلى صدارة الأجندة السياسية والإعلامية.
يأتي ذلك بالتوازي مع قرار الحكومة تشكيل لجنة تحقيق حكومية ــ سياسية في أحداث السابع من أكتوبر، مع صلاحيات تسمح بتوسيع نطاق التحقيق ليشمل المرحلة الممتدّة من اتفاقات أوسلو (1993) وصولاً إلى تلك الأحداث، بما يعكس محاولة لربط الحاضر الأمني بمسار سياسي ــ تاريخي أوسع يخدم سرديته الحالية.
التلميح باستئناف الحرب على إيران
تُوضح تجربة العامين الأخيرين أنه لا يمكن تجاهل التصريحات الإسرائيلية المتكررة بشأن ما تصفه بجهود إيرانية حثيثة لترميم قدراتها الصاروخية ومنظومات الدفاع الجوي، ولا من التهديدات الإسرائيلية باحتمال توجيه ضربات عسكرية جديدة على إيران. فقد شرعت إسرائيل في حملة إعلامية واسعة تهدف، أولاً، إلى بناء سردية موجّهة للرأي العام الإسرائيلي، مفادها أن ثمة "تهديداً إيرانياً جديداً" آخذاً في التشكل، يتمثل في سعي طهران لإعادة تأهيل قدراتها الصاروخية، وتسريع وتيرة إنتاج الصواريخ الباليستية، ومحاولة تطوير قدرات عسكرية جديدة كانت إسرائيل قد استهدفتها خلال الحرب على إيران قبل نحو ستة أشهر. وتدّعي إسرائيل أن إيران تجري تدريبات واسعة النطاق باستخدام الصواريخ الباليستية، يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى هجوم مفاجئ على إسرائيل، في تشبيه واضح بالعقيدة العسكرية السوفييتية التي كانت تعتمد تحويل المناورات العسكرية إلى هجوم مباغت، كما حدث في حرب أكتوبر 1973.
صحيح أن نتنياهو يحتاج، ويرغب، في الإبقاء على حالة الحرب على مختلف الجبهات، وأن أجواء الطوارئ والحرب تخدم مصالحه السياسية والشخصية بشكل واضح، غير أن هذا العامل، على أهميته، لا يفسّر وحده حالة الاستنفار الإسرائيلي الراهنة ولا تصعيد مستوى التهديدات الموجّهة إلى إيران. فإسرائيل تعمل، عملياً، على تكريس حالة حرب مستمرة، حتى وإن كانت بوتيرة منخفضة وباستخدام أدوات أقل حدّة، من بينها تنفيذ هجمات شبه يومية ضد لبنان واغتيال كوادر من حزب الله، في خرق واضح لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان، إلى جانب التهديد المتكرر باستئناف حرب واسعة على الجبهة الشمالية.
تعمل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على إعداد ملف استخباراتي متكامل يهدف لوضع إيران في موقع التهديد الشامل
وفي الوقت ذاته، تواصل إسرائيل عمليات القصف والقتل في قطاع غزة بذرائع مختلفة، وتعرقل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك إدخال المساعدات الإنسانية وبدء عملية إعادة الإعمار، ما يعكس سعياً ممنهجاً لإبقاء ساحات القتال مفتوحة، ولو ضمن حدود مدروسة، خدمةً لأهداف سياسية وأمنية أوسع.
أمّا في سياق التصعيد الحالي مع إيران، فتعمل المؤسستان العسكرية والأمنية في إسرائيل على بناء ما يمكن وصفه "بملف أدلّة" ضد طهران، من خلال نشر تقديرات استخبارية وعسكرية تفيد بأن إيران عادت إلى إنتاج الصواريخ الباليستية بوتيرة عالية، وذلك بعد نحو نصف عام فقط على الحرب الإسرائيلية التي استهدفت قدراتها الصاروخية ومنشآت مرتبطة ببرنامجها النووي. وتُعرب المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن قلق متزايد إزاء سرعة ترميم منظومة الصواريخ الباليستية الإيرانية، مشيرة إلى أن إسرائيل تتابع بقلق عودة طهران إلى إنتاج صواريخ أرض ــ أرض بأحجام كبيرة، إلى جانب إعادة تأهيل منظومات الدفاع الجوي التي تضررت بشدة خلال الحرب على إيران التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة في يونيو/حزيران الماضي.
ويأتي هذا الخطاب، بما يحمله من توصيفات وتحذيرات، في سياق تلميح واضح إلى احتمال استهداف إيران بهجوم جديد، أو على الأقل إلى تهيئة الرأي العام لمثل هذا السيناريو. وتعمل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على إعداد ملف استخباراتي متكامل يهدف إلى تجريم إيران ووضعها في موقع التهديد الشامل. وفي هذا السياق، لا تكتفي المؤسسة العسكرية بتضخيم تقديراتها بشأن محاولات طهران تعزيز قدراتها العسكرية المباشرة، بل تذهب أبعد من ذلك عبر تسريب روايات تفيد بأن إيران تعمل على إعادة بناء قدرات الحوثيين في اليمن، وتنفّذ عمليات تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية بهدف تنفيذ هجمات داخل إسرائيل، إلى جانب إعادة تزويد حزب الله في لبنان وتنظيمات مسلّحة في سورية بالسلاح، استعداداً لعمل عسكري محتمل ضد إسرائيل. وبهذا الخطاب، لا تُتَّهم إيران فقط بمحاولة ترميم قدراتها العسكرية والصاروخية، بل تُقدَّم على أنها تسعى إلى إعادة ترميم "المحور الإيراني" برمّته، بما يحمله ذلك من أبعاد إقليمية واسعة، تُستخدم لتوسيع دائرة التهديد وتبرير احتمالات التصعيد العسكري على أكثر من جبهة في آن واحد. وبذلك تلمّح إسرائيل إلى احتمال العودة إلى نقطة ما قبل السابع من أكتوبر 2023، وتُوحي بأن مجمل ما تدّعي تحقيقه من "إنجازات عسكرية" خلال العامين الماضيين بات مهدداً اليوم بفعل تصرف إيران والخطوات التي تنفذها على أرض الواقع.
ملف إيران على رأس جدول اجتماع نتنياهو وترامب
وبالتوازي مع بناء ملف المخاطر الإيرانية في المشهد السياسي الداخلي، تعمل إسرائيل، ونتنياهو تحديداً، على تحويل هذا المحور إلى الملف الأبرز والأكثر أولوية في اللقاء المرتقب بين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب نهاية الشهر الحالي. فإسرائيل تدرك أنها ستحتاج إلى دعم عسكري ومادي ودبلوماسي، وربما اقتصادي أيضاً، من الولايات المتحدة، في حال قررت شن الحرب على إيران وهي تروج في هذا السياق، لانطباع مفاده أن الرئيس الأميركي غير متحمس حالياً لخيار التصعيد العسكري ضد طهران. غير أن تجربة الماضي القريب تشير إلى أن هذا الموقف المعلن لا يمكن الركون إليه بشكل كامل. فترامب كان قد عبّر، في مراحل سابقة، عن تفضيله الحل السلمي والعودة إلى المفاوضات في ما يتعلق بالمشروع النووي الإيراني، لكنه، عند لحظة الاختبار، لم يكتفِ بدعم الحرب على إيران فحسب، بل شارك فيها فعلياً، عبر قصف طائرات أميركية منشآت نووية إيرانية.
بناءً عليه، يصعب الجزم بموقف ترامب أو سلوكه الفعلي في حال أقدمت إسرائيل على توجيه ضربة عسكرية جديدة إلى إيران. ومن المرجّح، استناداً إلى تجربة العام الحالي، أن يسعى نتنياهو إلى إقناع الرئيس الأميركي بضرورة شن الحرب على إيران أو، في الحد الأدنى، الحصول على ما يمكن وصفه بـ"دعم بالصمت" من قبل الإدارة الأميركية. وفي حال بقي موقف الرئيس الأميركي على حاله، رافضاً في هذه المرحلة توجيه ضربات عسكرية إلى إيران، يبقى السؤال الجوهري المطروح: كيف ستتصرف إسرائيل إذا توصلت المؤسستان الأمنية والعسكرية إلى قناعة بأن محاولات إيران لترميم قدراتها الصاروخية والعسكرية باتت تشكّل خطراً مستقبلياً، وأنها تعمل، في الوقت ذاته، على إعادة بناء قدرات حلفائها في المنطقة؟ وهل سيدفعها ذلك إلى تنفيذ عمل عسكري مباشر ضد إيران؟ ثم هل يمكن لإسرائيل أن تقدم على شن الحرب على إيران منفردة، إذا اقتنعت بأن الثمن الذي قد تدفعه اليوم أقل بكثير من الكلفة التي قد تواجهها في المستقبل؟
غياب دعم أميركي واضح وصريح لا يعني بالضرورة أن إسرائيل ستحجم عن تنفيذ ضربة عسكرية
لا نجازف في القول إن غياب دعم أميركي واضح وصريح لا يعني بالضرورة أن إسرائيل ستحجم عن تنفيذ ضربة عسكرية. هذا السيناريو واقعي، حتى لو أدى ذلك إلى إحراج الإدارة الأميركية أو إلى تصدّع مؤقت في العلاقة بين نتنياهو وترامب. فخبرة الماضي تشير إلى أن مثل هذه الخلافات قابلة للاحتواء، نظراً إلى أن شبكة المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الجانبين تبقى، في نهاية المطاف، أقوى من خلافات يمكن تصنيفها على أنها تكتيكية ومؤقتة.
ويطرح في هذا السياق سؤال إضافي لا يقل أهمية: هل ستحاول إسرائيل هذه المرة الدفع باتجاه إسقاط النظام الإيراني عبر ضربات عسكرية مباشرة، أو على الأقل العمل على إضعافه بشكل جوهري؟ وقد لمّح إلى هذا التوجّه الصحافي داني زاكين، الذي شغل سابقاً منصب رئيس إذاعة الجيش الإسرائيلي، في مقال نشره في صحيفة يسرائيل هيوم بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني الماضي، حيث أشار إلى أن "المقاربة الإسرائيلية الراهنة تفترض أنه من دون إسقاط النظام في طهران، ستكون إسرائيل محكومة بسنوات طويلة إضافية من الحروب المتكررة، وبمستويات متفاوتة من الشدة، في مواجهة أذرع إيران، وعلى رأسها حزب الله، والتنظيمات الفلسطينية، والحوثيون، بل وربما في مواجهة إيران نفسها".
تدحرج التوتر أم لجمه
من المتوقع أن تتصاعد في الأيام القريبة حملة التسريبات والإحاطات الإعلامية الصادرة من إسرائيل حول تنامي التوتر مع إيران، والأسباب التي تستدعي المبادرة إلى جولة جديدة ضد طهران، وذلك حتى موعد لقاء نتنياهو مع ترامب نهاية الشهر الحالي. وإلى جانب تحويل الانتباه عن قضايا أخرى مطروحة على جدول الأعمال، مثل لجنة التحقيق في أحداث السابع من أكتوبر والمماطلة في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق مع حركة حماس في غزة، فإن هذه العناوين الصادرة عن "مسؤول سياسي رفيع" أو "جهات استخبارية في الغرب" قد تُحدث تأثيراً قد يقود إلى تدهور أمني حقيقي نتيجة سوء فهم مع الإيرانيين. تدهور قد يشعل حرباً جديدة، لم يكن أي من الطرفين ينوي فعلياً خوضها في هذا التوقيت، وفقا ليوآف زيتون المحلل العسكري في موقع واينت (23 ديسمبر/كانون الأول الحالي).
