Arab
يستبشر الكثير من سكان أرياف تونس بقدوم فصل الشتاء، ليس لأنهم يعشقون البرد، لكن لأنه موسم جمع الفطر الذي تُنبته الأرض عقب هطل الأمطار، والذي يمثّل لهم مورد رزق سنوياً.
منذ كان في الحادية عشرة من عمره، اعتاد التونسي أمير أن يقطع المسالك الوعرة مع أول خيوط الفجر، بحثاً عن الفطر في جبال عين دراهم بمحافظة جندوبة (شمال غرب). كان الجبل مدرسته الأولى، وحفظ تضاريسه وطرقاته، كما عرف منعطفاته الخطِرة وصخوره الزلقة، واكتشف الأماكن التي يختبئ فيها الفطر بعد هطل المطر.
لم يعد يبحث عن تلك النبتة بعينيه فقط، بل بحاسةٍ خبرها من تجربة 15 سنة من العمل في جمع تلك النبتة الجبلية، وبات يُميّز الفطر السام من لونه ورائحته، وأثره في التربة، وتعلّم أنّ خطأ صغيراً قد يكون قاتلاً. ويوجد الفطر الذي يُعرف في تونس باسم "الفقاع"، في عدّة مناطق، ويستعمل في عدّة أطباق محلية.
كبر أمير في الجبال، وكبرت معه معرفة متوارثة لدى أغلب سكان المنطقة. ويقول لـ"العربي الجديد": "المواشي تعرف بغريزتها الفطر السام، ولا تأكل ما يقتل منه أو يُمثّل خطراً عليها، ومن خلال ذلك فهم الناس كيفية التمييز بين الفطر الجيد والفطر الذي قد يودي بحياتهم. السبب الأكثر شيوعاً لحالات التسمم التي يتمّ تسجيلها هو عدم التعرف على الفطر المسموم لأنّ بعض الأنواع تتشابه من حيث اللون والشكل، لذا أحياناً يخطئ ذوو الخبرة في التمييز بينهما، وتقوم وزارة الصحة بحملات توعية سنوية لتحذر السكان من خطر بعض الأنواع".
في عين دراهم، لا يُعدّ الفطر مجرّد نبتة موسمية، بل تحوّل إلى مورد رزق لكثير من العائلات، فمع أولى زخّات المطر، يخرج السكان إلى الغابات الكثيفة التي يعرفون مسالكها كما يعرفون بيوتهم، بحثاً عن أنواع الفطر الصالح للاستهلاك، وتُباع هذه الثروة الطبيعية للمطاعم والفنادق مباشرة. غير أنّ هذا المورد يظل هشّاً، ومرتبطاً بتقلّبات المناخ، فهو رزق يولد من الأرض بعد المطر، وإذا قلّت الأمطار تنقص تلك النبتة بشكل كبير، ما يعني قلة المداخل.
ويشير أمير إلى أنّ "الفطر يحتاج إلى مراوحة بين نزول المطر بكثافة وشروق الشمس حتى ينبت في الأراضي الجبلية، وفي هذه الفترة من كل سنة، وتحديداً في جبال بني مطير وعين دراهم، يتواصل ظهور هذا النوع من الفطر منذ نوفمبر/تشرين الثاني حتى إبريل/نيسان، ويعمل أغلب سكان الأرياف خلال هذه الفترة في جمعه بصفة يومية، وبيعه للمطاعم القريبة".
خلال التجوّل في تلك المسالك الوعرة في أثناء رحلة البحث عن الفطر، يعمد الباحث عنه إلى نبش أوراق الأشجار المتناثرة، وإخراج الفطر بطريقة تبدو شاقة لمن يجهلها، ويلاحظ أنّه ينمو بأشكال وألوان مختلفة، خصوصاً بالقرب من بعض أنواع النباتات، وقرب جذور الأشجار الضخمة كشجر البلوط، ويتكاثر أيضاً في ظلال أشجار الزان والكلتوس والريحان، لأنّه نبات يحتاج إلى أماكن عالية الرطوبة، لذا لا يوجد إلّا في المناطق الريفية والجبلية.
اتخذت التونسية ريحانة أبيضي من جمع الفطر مهنة بعد سنوات طويلة من البطالة، وقد تعوّدت مع دخول فصل الشتاء على حمل زادها وسلّة من القصب أو الحلفاء، لتشقّ الجبال مع أولى ساعات الصباح بحثاً عن الفطر. تمشي عدّة كيلومترات لتتوغل في غابة عين دراهم، حيث خبرت التنقل بكلّ حذر في المسالك الضيقة الزلقة، خصوصا بعد نزول الأمطار.
تعرف ريحانة أين تُخبّئ الأرض عطاياها، وهي تجمع ما يقارب الكيلوغرام من الفطر يومياً، تلتقطه حبّة حبّة، وتميّز الجيد منه بخبرة السنين، وعند عودتها، تبيعه في السوق، أو على قارعة الطريق بما يراوح بين 20 إلى 30 ديناراً تونسياً للكيلوغرام (نحو 10 دولارات)، ليكون ذلك رزقاً موسمياً يُعينها على مصاريف الحياة، ويجعل من الغابة مصدر عيشٍ مؤقّتاً، قاسياً في دروبه، كريم في عطاياه. تقول أبيضي: "تعد جهتنا من أشهر المناطق التي ينمو فيها هذا الفطر، وبعض سكان المناطق المجاورة والشباب المغرمون بالسياحة الجبلية يُقبلون على جبال عين دراهم لاكتشاف أنواع الفطر وأشكاله المختلفة".
وفي سنة 2001، جرى تشييد مصنع لتجميع الفطر ومعالجته وتعليبه في منطقة المريج، وبلغت كلفة تأسيسه نحو مليار دولار، ورغم كونه لا يعمل طيلة السنة، إلّا أنّه كان يُشغّل موسمياً نحو ألفي شخص لجمع الفطر يومياً طيلة فصل الشتاء. وأغلق المصنع في وقت سابق بسبب كثرة المُجمّعين الجدد، ومن يشترون النبات مباشرة ممن يجمعونه من الغابة، ما سبّب ارتفاع أسعاره نتيجة إقبال سكان المنطقة على بيع الفطر إلى المطاعم والنزل، لا إلى المصنع. لكن رغم إغلاقه، لا يجد الأهالي مشكلة في تسويق الفطر إلى جهات عدة باتت تطلبه بكثرة خلال السنوات الأخيرة.

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
27 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
31 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
51 minutes ago