Arab
يجدر ألا يمرّ اليوم العالمي للغة العربية مرور المناسبات، ولا أن نقف عند حدود الاحتفاء الرمزي، بل ليوقظ في الضمير سؤال الواجب قبل سؤال الفخر. ليذكّرنا هذا اليوم بما قدمته العربية لنا، وبما قصّرنا نحن لها، فاللغة، كأي كائن حي، إن لم تُخدم تذبل، وإن لم تُستعمل ضاقت، وإن لم تُدخل ميادين الحياة انزوت إلى هوامشها. الاحتفال الحقيقي بلغتنا ليس أن نمدحها، بل أن نفكر بصدق: كيف نعزّز حضورها؟ وكيف نعيدها إلى قلب الفعل ولا نتركها في أطراف الذاكرة؟
نعيش اليوم في زمنٍ تتسارع فيه ثورة الذكاء الاصطناعي، زمنٍ يقرّب المعلومة، وييسّر التعلم، ويختصر المسافات. لكن هذه الثورة على عظمتها لا تلغي قيمة اللغة، بل تزيدها عمقاً. فكلما ازدادت الآلة ذكاءً، ازدادت الحاجة إلى إنسانٍ يُحسن التعبير، ويجيد التواصل الإنساني الحي. اللغة هنا ليست أداة نقل فحسب، بل مذاق، ونبرة، وروح وأحاسيس. ما تصنعه الخوارزميات من معلومات لا يعوّض دفء الكلمة الصادقة ولا حكمة التعبير الدقيق.
من هنا، من هذه الحاجة إلى التواصل بين الناطقين بالعربية، وإلى تداول الأفكار بينهم، وإلى مشاركة قصص النجاح والمبادرات، انبثقت مبادرة "بالعربي" فهي لم تولد من فراغ، بل من شعورٍ بأن الفضاء العربي الرقمي يحتاج صوتاً يتكلم بلغته، ومنصة تُنصت لهواجسه، وإلى مساحة يُعبّر فيها عن أفكاره بلا وسيط لغوي ولا ترجمة ناقصة. مبادرة "بالعربي" ليست شعاراً لغويّاً، بل هي موقف حضاري، فأردنا لهذه المبادرة أن تزيد المحتوى العربي، لا من حيثُ الكمُّ وحدَه، بل من حيث النوعُ والقيمة. نريدها أن تدعم أفكار الناطقين بالعربية، وأن تفتح لهم نافذة يروون منها قصصهم، ويعرضون تجاربهم، ويصوغون رؤيتهم إلى العالم، فالأمم تُعرَف بقدرتها على التعبير عن ذاتها بلغتها. والمحتوى العربي، حين يكون حيّاً ومتعدّداً، يصبح فعل مقاومة ناعمة في وجه التهميش، وجسراً للحوار، بدل أن يكون صدى باهتاً لغيره.
الأخطر من ضعف المحتوى الثقافي إقصاء العربية عن دوائر الإنتاج العلمي. فالمشكلة اليوم ليست في عجز اللغة العربية، بل في إبعادها عن المختبر، والجامعة، ومراكز الأبحاث. وهنا يتجلى دور مبادرة "بالعربي" بوصفها مشروع إعادة وصل العربية بالعلم والابتكار. فنحن نريد أن تعود العربية لغة شرح، ولغة تحليل، ولغة تفكير علمي، لا مجرد لغة احتفال أو تعليم أولي. فالعلم الذي لا يُصاغ بلغتنا يبتعد عن وجداننا.
لا يجوز أن نترك المنصات الحديثة لتبني سرديّتنا عنا؛ لأن السردية، إن لم نكتبها نحن، ستُكتب لنا
نعم، للغة وظائف متعدّدة: فهي وسيلة للتواصل، وجسر للتراث، وأداة للتعليم. لكن من أخطر ما نغفله اليوم أنها لغة تفكير. ليست العربية قاصرة عن توليد المفاهيم، بل تملك قدرة اشتقاقية عجيبة، ونظاماً دقيقاً في اختيار الكلمة. كلمة واحدة في العربية قد تحمل ظلالاً من المعنى، لا تجتمع في مصطلح واحد في لغات أخرى. ليست هذه الدقة ترفاً، بل هي شرطٌ من شروط التفكير العميق، لأن الفكر لا يتشكّل إلا في لغة قادرة على احتوائه.
لسنا في هذا الادعاء منطلقين من فراغ، ويكفي أن نلتفت إلى التاريخ حين كانت العربية لغة الحضارة. يومها دُوّنت بها الفلسفة، والطب، والكيمياء، والفلك، والجبر. لم تكن العربية ناقلاً للعلوم، بل كانت منطقاً للتفكير فيها. ويكفي أن نتأمل بعض المصطلحات الفلسفية لنقف على قدرتها الفائقة في التعامل مع التجريد وما وراء المادّة، خذ كلمات مثل: واجب الوجود، والماهية، والذات والروح والجسد والنفس. بل خذ كلمات مثل: الأزل، والأبد، والسرمد، وستجدك أمام تفريق لغوي دقيق بين الزمن، والدوام، ونفي البداية والنهاية.
والأمر الآخر الخطير الذي يواجهنا اليوم أننا أصحاب قضية عربية، وأصحاب رسالة سماوية، ونملك قوة عظمى ليست لأحدٍ غيرنا، قوة الثقافة الناعمة. لا يجوز أن نترك المنصات الحديثة لتبني سرديّتنا عنا؛ لأن السردية، إن لم نكتبها نحن، ستُكتب لنا. وستكون سردية عربية بنظارات غربية، لا عن سوء نية بالضرورة، بل لأن الفراغ لا يبقى فراغاً. غياب المحتوى العربي الكثيف، الصحيح، المتصل بقيمه وهويته، هو ما يسمح بتشكيل صورة مشوّهة أو منقوصة عن قضايا الأمة وثقافتها.
قضايا مثل ازدواج المصطلح، وبطء التعريب، وتشتت الجهود، يمكن اليوم تجاوزها لو توفرت الإرادة والإدارة
لهذا، يجب أن نؤمن بلغتنا إيماناً عمليّاً، وأن نسعى إلى توحيد جهود المجامع اللغوية. وهذا العصر، بعكس ما نظن، يساعدنا أكثر مما يَعوقنا. اليوم يمكن: توحيد المصطلحات بسرعة غير مسبوقة. وعقد الجلسات العلمية عن بُعد بدون كلفة. وبناء قواعد بيانات مصطلحية مشتركة. واستخدام الذكاء الاصطناعي لرصد الاستعمالات، واقتراح المصطلحات، وتسريع التوافق اللغوي.
قضايا مثل ازدواج المصطلح، وبطء التعريب، وتشتت الجهود، يمكن اليوم تجاوزها لو توفرت الإرادة والإدارة. وكما كانت لغتنا يوماً لغة الحضارة، فإن واجبنا اليوم أن نعيد لها سيرتها العظيمة، لا بالانغلاق ولا برفض اللغات الأخرى. لسنا ضد النشر باللغات الأجنبية، بل مع النشر المتعدّد اللغات، وفي مقدمها العربية، فنكتب بلغتنا أولاً، ثم نخاطب العالم بلغاته، فاللغة التي لا نثق بها في بيوتنا لن يحترمها الآخر في ساحته.
في اليوم العالمي للغة العربية، لا نطلب معجزة. نطلب فقط أن نعيد إلى العربية مكانها الطبيعي: في قلب الفكر، وفي صلب العلم، وفي وجدان الإنسان .أن نؤمن بها، فنُحييها… لا بالكلام عنها، بل بالكلام والفاعلية بها.
