مينوكيو وكون من قطعة جُبن.. أي تاريخ للثقافة الشعبية؟
Arab
1 week ago
share
ما وجه التعاطُف بين "الجبن والديدان"؟ العنوان الذي اختاره المؤرخ الإيطالي كارلو غينزبورغ لكتابه، والذي صدرت منه حديثاً طبعة عربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة أنجزها عبد الله الحميدي. للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ أن نخوض رحلة في "منهج التاريخ المجهري"، حيث ينطلق المؤلّف من حالة فردية تبدو بسيطة: طحّان إيطالي من القرن السادس عشر يُدعى دومينيكو سكانديلا، المعروف بمينوكيو. لكن هذا المثال المحدود يتحوّل، بفعل قراءة أرشيفية دقيقة، إلى بوابة لفهم عالمٍ اجتماعي، يكشف عن ديناميات التفكير الشعبي وطبيعة تداول المعرفة في بدايات العصر الحديث. يعتمد غينزبورغ (1939) على وثائق محاكم التفتيش ليعيد رسم ملامح هذا الرجل الذي حُوكِم مرتين بتهمة الهرطقة، وانتهت الثانية بإعدامه حرقاً، ويستحضر أفكاره، وصلاته ببيئته الريفية، ليثبت أنّ الثقافات المهمّشة ليست صامتة كما افترضت السرديات الكبرى، بل تحمل رؤى بديلة وتفسيرات خلاّقة للكون والدين والسلطة. تظهر شخصية مينوكيو محورَ الكتاب؛ إذ يعيد المؤلّف بناء عالمه الفكري من شذرات أقواله أمام القضاة ومن الكتب التي تمكّن من الوصول إليها. وأكثر ما أثار اهتمام المؤرخين هو تفسيره الغريب لنشأة العالم: الكون عنده تشكّل من مادة أولى تخثّرت كالجبن ونشأت فيها الديدان التي مثّلت الكائنات الأولى. هذا التشبيه، الذي بدا للقضاة هرطقة صريحة، يقرأه غينزبورغ بوصفه نافذة على ثقافة ريفية كانت تعيد إنتاج المعارف الدينية والفلسفية بطُرق لا تخلو من الابتكار. ويُظهر غينزبورغ، عبر مقاطع المحاكمات، تداخلاً معقداً بين الثقافة الشعبية والثقافة "العالِمة". فالمصادر التي قرأها مينوكيو، بدءاً من النصوص الدينية المبسّطة وصولاً إلى طبعات مترجمة من كتب محظورة، تتحول في ذهنه إلى منظومة فكرية هجينة. وتشير إحدى الشهادات إلى أنّه ربما اطّلع على ترجمة إيطالية للقرآن صدرت في البندقية منتصف القرن السادس عشر. يتحدّى فرضيات أن الفلاحين ليسوا إلّا متلقِّين سلبيين للتعاليم يضع غينزبورغ العلاقة بين السلطة والمعرفة في قلب تأريخه. فالمحاكمة الأولى لمينوكيو ثم الثانية تكشفان عن آليات القمع التي مارستها محاكم التفتيش لتقييد أي سردية لا تنسجم مع العقيدة الرسمية. غير أنّ دفاع الرجل المستميت عن قناعاته يقدّم نموذجاً لتمسّك الأفراد بحقهم في التأويل، وقدرتهم على تحدّي السلطة حتى ضمن أضيق الهامش المتاح. يقرأ غينزبورغ هذه المواجهة بوصفها صراعاً بين المخيّلة الشعبية والمؤسسة الدينية. كذلك يُظهر المؤلّف أنّ التعمّق في حالة واحدة، مهما بدت هامشية، يمكن أن يفتح آفاقاً واسعة لفهم البنى الاجتماعية وأنماط التفكير التي لا تظهر في السرديات الكبرى. إنّ "التاريخ المجهري"، كما يصوغه غينزبورغ، هو محاولة لإعادة بناء العالم من منظور الذين ظلّوا على هامش السجلات. ومن خلال مينوكيو، يقدّم المؤلّف درساً منهجياً مفاده أنّ القصص الفردية هي أدوات أساسية لفهم التاريخ على نحو أكثر إنصافاً وتعدّداً. يقدم غينزبورغ صورة لطبقات ريفية تمتلك مخيّلة خصبة وقدرة على إنتاج المعنى، ويذكّر بأن التاريخ ليس حكاية الملوك والفقهاء فحسب.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows