"لماذا يخطئ المثقفون؟" لصامويل فيتوسي: انحياز الفكر وانتقائية النقد
Arab
1 week ago
share
يسعى الباحث والصحافي الفرنسي صامويل فيتوسي في كتابه "لماذا يخطئ المثقفون" (منشورات أوبسرفاتوار، 2025) إلى تقديم جوابٍ جديدٍ، علمي وموضوعي، عن سؤال قديم ومتكرّر: لماذا يرتكب المثقّفون، رغم ذكائهم وموهبتهم وسعة معرفتهم، أخطاء فادحة في خياراتهم السياسيّة وانحيازاتهم الفكرية والأخلاقية؟ للإجابة عن هذا السؤال، يستعين الكاتب بكثير من الدراسات والأبحاث في مجال علم النفس الاجتماعي والمعرفي، ويُحيل إلى عدد كبير من مؤرخي الأفكار، مستنداً إلى فرضية مركزية تقول إنّ مناط الأمر ليس الذكاء ولا النيّة، وإنّما طبيعة العقل البشري، الذي لا يسعى إلى الحقيقة بقدر سعيه إلى الاعتراف الاجتماعي، وغالباً ما يتأرجح بين "عقلانية معرفيّة" غايتُها الحقيقة الموضوعيّة، و"عقلانية اجتماعيّة" همُّها الأوّل الحفاظ على المكانة في إطار الجماعة. ولمّا كان المثقّف يعيش ويتحرّك داخل دوائر شبه مغلقة، فإنّ خوفه من الإقصاء والتهميش يفوق، كما يرى فيتوسي، التزامه بالحقيقة، مثلما تتغلّب الحاجة عنده إلى نيل رضا الأقران وتقديرهم على الرغبة في التفكير الحرّ أو البحث المجرّد عن المعرفة، ما يفسّر تبنّيه الأفكار المهيمنة في تلك الدوائر بصرف النظر عن مدى صحّتها أو أخلاقيّتها. وعليه، يرى الكاتب أنّ "الإنسان الحديث ليس وريث غاليليو وكوبرنيكوس، بل وريث الجموع التي حكمت عليهما بالهرطقة". ولإثبات أطروحته، يستعرض فيتوسي سلسلة طويلة من الأمثلة على ما يسمّيه "انحرافات المثقّفين وضلالاتهم" منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: من سارتر ودو بوفوار، إلى ألتوسير وأراغون وميشيل فوكو، وغيرهم ممّن يرى أنّهم دافعوا عن أيديولوجيات وأنظمة شموليّة كالشيوعيّة والماويّة، وسوّغوا أخلاقيّاً وفكريّاً ما مارسته بعض الدكتاتوريات من عنف وقمع. ويحلّل الكاتب الآليات الذهنيّة والنفسيّة التي تحكم آراء المثقفين وتحليلاتهم، كالتحيّز التأكيدي الذي يدفع المرء إلى البحث عمّا يؤكّد أفكاره، فلا يرى إلّا ما يؤمن به مسبقاً، و"مفارقة توكفيل" التي تجعل المثقفين يواصلون الاحتجاج حتّى حين تتحسّن أحوال مجتمعهم الاجتماعية والسياسية، لأنّ هويّتهم الفكرية تقوم على الاعتراض في حدّ ذاته. تحليل الآليات الذهنيّة والنفسيّة التي تحكم آراء المثقفين ويبرز فيتوسي دور المؤسسات الأكاديمية والثقافيّة في تكريس هذا النمط من التفكير. فالجامعات ودور النشر والمجلات الفكرية تكافئ غالباً من يمتثل للمناخ الفكري السائد، وتُقصي أو تهمّش من يخالفه. وبهذا تتكوّن فقاعات فكرية مغلقة، يكرّر أعضاؤها الخطابات نفسها ويُضفون عليها بمرور الوقت طابعاً "علميّاً" أو "تقدّميّاً" لا يُمسّ، رغم بعدها عن الواقع. وتتحوّل الأكاديميا إلى منظومة أيديولوجية جديدة تُخفي وراءها نزعات ورغبات في السيطرة الرمزية. وعوض أن يكون المثقفون حرّاساً للحقيقة، يصيرون في كثير من الأحيان منتجي أوهام جماعيّة جديدة. قد تبدو أطروحة فيتوسي في بعض جوانبها متماسكة ومنهجيّة، لكنّها لا تخلو من ثغرات جوهرية لا يمكن القفز عنها. فهو يتجاهل، عند حديثه عن انجذاب كثير من المثقفين إلى الأنظمة الشمولية بعد الحرب العالمية الثانية، ارتباط ذلك بانهيار شرعية الديمقراطيات الليبرالية الغربية آنذاك، بسبب خطيئتين تاريخيتين لا تُغتفران: الاستعمار والفاشية. فهذا الانهيار الأخلاقي هو ما دفع كثيرين إلى البحث عن بديل يساريّ، حتى وإن كان شموليّاً. ثمّ إنّ الكاتب يُفرط، أوّلاً، في ممارسة التعميم، فيميل إلى الحديث عن "المثقّفين" بوصفهم كتلة واحدة متجانسة، بخلاف الواقع الذي يتّسم بالتنوّع الفكري والطبقي والاجتماعي، وثانياً في اللجوء إلى الانتقائيّة، فقائمة المثقّفين "الخطّائين" التي يعرضها تكاد تقتصر على المثقفين اليساريّين الغربيين، في إغفال لما يقترفه نظراؤهم اليمينيون أو الليبراليّون من تسويغ للاستعمار أو دفاع عن حروب الغرب الحديثة. فعلى سبيل المثال، يرى فيتوسي أنّ "نقد مثقّفي اليسار الفرنسيّ لكلّ ما ليس غربيّاً (الإسلام السياسي، الجزائر، إيران، أو المهاجرون المسلمون) يظلّ نقداً خجولاً، بينما نجدهم يبدون قسوة بالغة إذا ما تناولوا بالنقد قيم الغرب وسياساته". لكنّه في المقابل يسكت عن مواقف كتّاب مثل ويلبيك وأونفري وفينكيلكراوت، ممّن اصطفّوا خلف خطاب اليمين المتطرّف، فدعموا خطاب الكراهية ضد المهاجرين وغذّوا نزعة الإسلاموفوبيا، أو مثل برنار هنري ليفي الذي شجّع التدخّل العسكري الغربي في غير مكان من العالم، وساند الدعاية الإسرائيلية خلال حرب الإبادة على غزّة. وبذلك يضع الكاتب نفسه موضع المدافع ضمنيّاً عن "النموذج الغربي" من منظور أوروبيّ مركزيّ لا يرى المثقف مخطئاً إلّا حين يوجّه سهام نقده نحو الغرب. ويتجلّى هذا التمركز في أوضح صورة في قراءة فيتوسي لمجريات الأحداث بعد 7 أكتوبر، إذ يوظّف مفهوم "وهم التحكّم" لاتهام المثقفين، الذين أدانوا جرائم إسرائيل ودعم الغرب لها، بأنّهم يبالغون في تقدير قدرة الغرب وإسرائيل على التحكّم بالأحداث، وينفون قدرة الفلسطينيين على الفعل، مُعفينهم بذلك من المسؤولية، وجاعلين منهم مجرّد ضحايا. لكنّ هذه القراءة التبسيطية تتجاهل الوقائع التاريخية والسياسية التي تُثبت دور القوى الغربية المركزي في تأجيج التوتّرات والأزمات في مختلف أنحاء العالم (حروب، انقلابات، حصار اقتصادي...). كما تخلط بين فهم الدوافع وتسويغها؛ فحين يناقش المثقفون الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، فإنّهم "لا ينفون فاعليّة الفلسطينيين"، بل يحلّلون السياق الاستعماري من أجل فهمٍ أفضل للوقائع. وفي هذا التغافل عن سياسات الهيمنة الغربية تبرئةٌ مضمرة لمن يسعون إلى التحكّم بمصائر الشعوب والسيطرة على مقدّراتهم. وهكذا فإنّ نقد فيتوسي لـ"وهم التحكّم" ما هو إلّا سقوط في وهم آخر، يقلّل من حجم المسؤولية الغربية، وكأنّ الاعتراف بفاعليّة الضحيّة يستدعي بالضرورة تبرئة المجرم. يتجاهل انجذاب كثير من المثقفين إلى الأنظمة الشمولية وعلى ما يقدّمه الكتاب من أفكار وتحليلات للتحيّزات النفسية والاجتماعية التي تؤثّر في آراء المثقفين وأحكامهم، ورغم أهمية الأسئلة التي يثيرها حول إرثهم في القرن العشرين، فإنّه، بسبب انتقائيته وتمركزه الأوروبي وتبسيطه للصراعات، لم يوفّق إلى حدّ بعيد في تقديم إجابة شاملة ومتوازنة ومنصفة عن سؤاله: "لماذا يخطئ المثقفون؟". تكمن المفارقة في أنّ الكاتب، في نقده المثقّفَ الذي لا يرى عيوب جماعته، يقع بالضبط في الخطأ نفسه: فهو يفضح انحيازات الآخرين، بينما يعجز عن رؤية انحيازاته الخاصة. ويبدو الأمر كما لو أنّ فيتوسي أراد أن يكتب عن أخطاء المثقفين، لكنه انتهى بتأليف كتابٍ عن أخطاء بعضهم  فقط، وتلك مشكلة كتابه الأساسية. ولذا، قد لا يكون مجافياً للصواب القول، وفقاً لمنطقه: المثقّفون يخطئون، وفيتوسي مثقّف، إذن فيتوسي يخطئ.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows