شخصيات تحمل جراحها علناً في مسرحية فرتيج
Arab
1 week ago
share
يبدو السطح في مسرحية "فيرتيج"، التي قدّمتها "جمعية دار الفن فاس" بمسرح سيدي بليوط في مدينة الدار البيضاء يوم الخامس من الشهر الجاري، أكثر من مكان، فهو يمثّل شخصية محورية، برزخاً بين الأرض والسماء، يجمع المنبوذين ويجعلهم مرئيين أمام أنفسهم والجمهور، ويحوّل الصراع بين التديّن المزيف والفن إلى صراع شعوري وجدلي داخل كل شخصية. هنا يصير الصوت والجسد أدوات تحريرٍ، وتتكشف المغفرة كمسارٍ داخليٍ يُكتشف في مواجهة الماضي والثقافة والوصمة، لا كهديةٍ خارجيةٍ تُمنح.  منذ اللحظة الأولى، تكسر المسرحية، التي عرضت ضمن فعاليات "مهرجان الأصيل للفن والثقافة"، المسافة بين الخشبة وجمهورها، وتدفع المتلقّي إلى داخل عالمها قبل أن تتشكّل ملامحه. يمتدّ صخب الملهى الليلي عبر القاعة، ويصعد المغني فوق الخشبة فيما تتهادى فدوى مخمورة، تحمل كأسها وتتجوّل بين المقاعد كأنّها تبحث عن مخرج من ليلٍ آخر لا يتعلق بالموسيقى. هذا الانغماس المبكر في الفوضى ليس مدخلاً جمالياً بقدر ما هو تمهيدٌ لانتقال حادّ يقود المشهد إلى سطح بيت مهترئ، حيث تعيش فدوى (نسرين المنجي) مع أمّها نعيمة (نجوم الزوهرة) في فضاء يعلو المدينة قليلاً، لكنه يظلّ مشدوداً إلى أسفلها بكل ما راكمته من وصم وذاكرة. هنا يتخذ العرض شكله الحقيقي؛ مواجهة معلّقة بين الماضي الذي لا يختفي والحاضر الذي يحاول النجاة منه، مواجهة تُعاد صياغتها عبر شخصيات تحمل جراحها علناً لأنها لم تعد قادرةً على حملها سرّاً.  توظيف الصوت والجسد لاكتشاف المغفرة بوصفها رحلة داخلية تتجسّد جدلية الذنب والمغفرة في كل شخصية. فدوى، طالبة السوسيولوجيا، تتعامل مع إرث الأم بشكل حادّ، تتجاوز الغضب إلى انتقامٍ رمزيّ، وهي تقول بعد سلسلة من الاعترافات المؤلمة: "لم أعد أعرف من يكون كل منا، من منا الآخر، ولا أين هو الطريق"، معبرةً عن فقدان الهوية بين أجيال محكومة بالعار. نعيمة تحمل العار التاريخي للمرأة المقهورة والمقصّرة أمام المجتمع، وتواجهه بصمت محمّل بذكريات القسوة. إبراهيم (بادي الرياحي) يمثل الذنب المؤجّل، سجين الماضي وما يفرضه المجتمع من وصم، حتى وهو بريء من الاتهام المباشر، نموذج المواطن الذي عُذّب ظلماً في السجون، فيما يقاوم كريم (سفيان الملولي) باسم الفن، صوته أداة كشف وحلّ من قيود العار، يفتح باب النور في عالم كثّفه الظلّ.  كريم الذي بدأ حياته بتلاوة القرآن، ويحمل احترامه العميق للمقدّس، تمرد على الطريقة العنيفة التي تلقّن بها الدين، ليصبح فناناً آخر، صوتاً يفتح مساحة للحرية والتعبير، مجسداً إمكانية المقاومة والتجديد عبر الفن أثناء اختيار الطريق. كل حركةٍ على الخشبة، كل إيماءةٍ وكل صعودٍ وهبوطٍ على السطح، يضيف بعداً دلالياً يثري الحوار الداخلي للشخصيات ويؤكد رمزيةَ المكان كفضاءٍ للوعي الممزق، حيث تختبر فدوى، بعد اعترافات الشخصيات بما يوجعها ويعرّي جروحها، حدود الغفران والتصالح مع الذات. العمل الذي يحمل توقيع الكاتب المسرحي حميد الطالبي، يسرد مأساةَ الفرد ويستثمر النظرية الفلسفية والاجتماعية. تُظهر الشخصيات إدراكاً بأن الدين المشوَّه يحوّل الذنب إلى وصمة مستمرة ويكرّس العبودية النفسية والاجتماعية، بينما الفن قد يمثل مساحةَ مواجهةٍ وفتحٍ للنور الداخلي. الصراع هنا بين قيم متنازعة؛ الدين المشوَّه مقابل الفن، العار مقابل المغفرة، الماضي مقابل المستقبل، وفي قلب هذا الصراع يتكشف الإنسان الممزق الباحث عن معنى وجوده وسط التناقضات. كل شخصية تتحرك في فضاء الوعي الممزق للسطح، حيث يصبح الصوت والجسد أدوات لاكتشاف المغفرة كرحلة داخلية، والفن وسيلة للاعتراف بالذات وتحويل الألم إلى فعل جمالي قادر على مقاومة الوصمة. اعتمد إخراج خالد ازويشي على دقة الملاحظة والتجربة العملية، مع اهتمام بليغٍ بلغة الجسد التي تصبح أداةً لفهم النص وتحويله إلى فعلٍ حيّ على الخشبة. من تدرب الممثلين على الإنصات العميق للحظة، إلى ضبط الإيقاع والضوء والصوت، تدخل في هذا العرض الذي أنجزت له السينوغرافيا أميمة الخضري كل تفصيلة في منظومة متكاملة، تجعل من الأداء وحدةً دلاليةً حيةً. الفنانون نسرين المنجي وبادي الرياحي وسفيان الملولي ومعهم نجوم الزوهرة، يخلقون على الركح شخصيات تتنفس ذاتها، متشابكةً مع بعضها ومع المكان، متفاعلةً مع رمزية السطح كفضاء للوعي والمقاومة. "فرتيج"، التي أنجزت بدعم وزارة الشباب والثقافة والتواصل، تجسّد قدرة المسرح على تحويل الهامش إلى فضاء للفلسفة والإنسانية، حيث يتصارع الماضي مع المستقبل في أفقٍ مفتوحٍ على الحرية، ويصبح الخلاص معركةً داخليةً حقيقيةً لكل من يجرؤ على مواجهة ظله.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows