Arab
في خطوة تهدف إلى إعادة تنشيط القطاع الصناعي وتخفيف الأعباء المتراكمة على المنتجين، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، الخميس الماضي، مرسوماً ضريبياً غير مسبوق يتيح تسوية واسعة للذمم والغرامات المتراكمة منذ سنوات. وقد استقبل القطاع الصناعي هذا المرسوم بوصفه نقطة تحول في العلاقة بين المكلّفين ووزارة المالية، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة التي يعيشها الاقتصاد السوري. ويقضي المرسوم بإعفاء المكلّفين من كامل الفوائد والجزاءات والغرامات العائدة لأعوام 2024 وما قبل، في حال سداد المستحقات الضريبية قبل نهاية مارس/آذار 2026، ومن 50% من الغرامات إذا جرى السداد خلال الفترة الممتدة بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران من العام نفسه، إضافة إلى إعفاءات جزئية للمكلّفين الذين سدّدوا جزءاً من تلك الضرائب سابقاً.
فرصة نادرة
رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها محمد أيمن المولوي اعتبر أنّ المرسوم يمثل فرصة نادرة لشريحة واسعة من الصناعيين والتجار الذين تراكمت عليهم التزامات امتدت لسنوات طويلة، وقال لـ"العربي الجديد" إن القوى الإنتاجية عانت خلال الفترة الماضية من صعوبات مالية حادّة، وتراجع في الطلب، وارتفاع في تكاليف التشغيل، ما جعل الالتزامات الضريبية المتراكمة عبئاً ثقيلاً على المصانع والمنشآت الصغيرة والمتوسطة. ويشير المولوي إلى أنّ المرسوم لن يخفف من الضغط المالي فحسب، بل سيؤدي إلى تبسيط إجراءات وزارة المالية، ولا سيّما ما يتعلق بآلية إنجاز التكاليف الضريبية، التي شكّلت أحد أكبر مصادر التعطّل الإداري خلال السنوات الماضية. ويرى أن تسهيل هذه الإجراءات سيعزز ثقة المستثمرين المحليين والخارجيين، ويمنح الصناعات المحلية فرصة لالتقاط أنفاسها والتفرّغ للتوسع والإنتاج بدل الانشغال بالملاحقات والغرامات.
وفي المنطقة الصناعية بريف دمشق، يقول صاحب ورشة لخياطة الملابس عبد القادر الخطاب لـ"العربي الجديد" إنّ المرسوم جاء في الوقت المناسب، إذ كانت الورشة مهدّدة بالإغلاق نتيجة تراكم الرسوم والغرامات التي تجاوزت قدرة المنشأة على السداد. ويضيف: "الإعفاءات تمنحنا فرصة لترتيب وضعنا من جديد. أهم ما في المرسوم أنه يعترف بواقع الصناعيين اليوم، وهو واقع صعب ولا يحتمل عقوبات إضافية". بدوره يؤكّد عضو غرفة الصناعة محمد الحلاق لـ"العربي الجديد" أنّ الغرامات التي تراكمت على منشأته خلال السنوات الماضية كانت تحول دون قدرته على التوسع أو حتى تشغيل خطوط جديدة، وقال: "اليوم يمكنني أن أسدّد المستحقات الأساسية فقط، دون الغرامات الكبيرة، وهذا يخفف نحو 40% من العبء المالي"، معتبراً أن المرسوم قد يشجع عدداً من المصانع المتوقفة على العودة إلى الإنتاج.
مصالحة مالية
ويرى صناعيون أن المرسوم يقدّم رسالة سياسية واقتصادية حول إعادة صياغة العلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص، خصوصاً في ظلّ الدعوات المتكررة لخلق بيئة أعمال أكثر مرونة. ويشير عدد من رجال الأعمال الذين تواصلت "العربي الجديد" معهم إلى أنّ المرسوم يشكل بداية مصالحة مالية قد تستكمل بمراسيم لاحقة تشمل إعادة جدولة الضرائب المستقبلية أو تخفيض نسب الرسوم التي أثقلت كاهل الإنتاج خلال السنوات الماضية. ويؤكد البعض أن تخفيف الأعباء المالية سيتيح للقطاع الصناعي الاستثمار في تحديث الآلات وتأمين المواد الأولية، وهي خطوة قد تنعكس مباشرة على الأسعار في السوق وعلى القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، خاصة في الصناعات الغذائية والدوائية والإنشائية. ويرى الخبير الاقتصادي محمد سليمان أن المرسوم يشكل استجابة واقعية لظروف الاقتصاد السوري، لكنه يشدد على أن نتائج المرسوم لن تكون شاملة ما لم تُستكمَل بإصلاح ضريبي أوسع.
ويقول سليمان لـ"العربي الجديد" إن العائق الأكبر أمام الصناعيين لم يكن حجم الغرامات فحسب، بل عدم استقرار السياسة الضريبية والجمركية، وتكرار التعديلات المفاجئة التي أربكت خطوط الإنتاج. ويضيف: "الإعفاءات خطوة جيّدة، لكنها لا تكفي وحدها. المطلوب هو نظام ضريبي واضح، منخفض العبء، وسهل التطبيق، يتيح للمكلّف معرفة التزاماته مسبقاً"، ويؤكد أن المرسوم يمكن أن يحرك النشاط الاقتصادي جزئياً عبر تخفيف الديون المتراكمة، لكنه لن يؤدي إلى طفرة إنتاجية ما لم يترافق مع تسهيل الاستيراد، وتوفير الطاقة بأسعار مقبولة، واستقرار سعر الصرف. ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن عدداً من المكلفين سيستفيدون من المرسوم لفتح حسابات نظامية جديدة مع وزارة المالية، ما قد يوسع القاعدة الضريبية تدريجياً ويزيد من إيرادات الدولة على المدى المتوسط، من دون أن يشكل عبئاً إضافياً على الصناعيين.
مرحلة جديدة
مع دخول المرسوم حيّز التنفيذ، تتوقع غرف الصناعة والتجارة زيادة في طلبات تسوية الوضع الضريبي خلال الأشهر المقبلة، خاصة من المنشآت الصغيرة التي لم تتمكّن من سداد غراماتها خلال السنوات الماضية. ويرى مراقبون أن المرسوم يمهد لمرحلة جديدة من العلاقة بين الدولة والمكلّفين، يكون فيها التسديد المبكر والتعامل النظامي أكثر جدوى من التهرّب أو التأجيل.
وبينما تبقى فعالية المرسوم مرهونة بطريقة تطبيقه والتعليمات التنفيذية التي ستصدر عن وزير المالية، فإنّ الأوساط الاقتصادية ترى فيه بداية مسار طويل لإصلاح العلاقة بين الدولة والمكلف، يقوم على مبدأ تخفيف الأعباء مقابل التزام أكبر بالشفافية والدفع ضمن المهل المحددة.
ويرجّح مراقبون أن النجاح الحقيقي للمرسوم سيظهر في حال تمكّنت وزارة المالية من تحويله إلى فرصة لإعادة ضبط النظام الضريبي، واستخدام البيانات الجديدة التي ستتدفّق من عمليات التسوية لتوسيع قاعدة المكلفين وزيادة الإيرادات العامة دون إثقال كاهل القطاعات المنتجة. ومع اقتراب نهاية المهلة الأولى في مارس 2026، سيختبر القطاع الصناعي جدّية الحكومة في دعم الإنتاج عبر استقرار التشريعات وتخفيف التعقيدات الإجرائية، وهو ما سيحدّد ما إذا كان المرسوم مجرد معالجة ظرفية للمتراكم، أم خطوة أولى في إعادة هيكلة السياسة الضريبية في سورية.
