الدراما المحلية: مأزق الكتابة أمام الذكاء الاصطناعي
Arab
1 week ago
share
تفرض المرحلة الراهنة إعادة نظر جدّية في طبيعة العلاقة بين الدراما التلفزيونية المحلية والذكاء الاصطناعي الذي لم يعد أداة مساعدة، بل بدأ يمارس شكلاً من السيطرة الترويضية على النص الدرامي بوصفه ركناً تأسيسياً في العمل التلفزيوني ككل. هذا التأثير لا يقتصر على الكتابة وحدها، بل يمتد إلى مختلف المكوّنات الإبداعية والإنتاجية. في المقابل، تتجلّى حالة انبهار واسعة لدى الجمهور بمنتجات المنصّات الدرامية العالمية، وهي منتجات تخضع، في معظمها، لتقييمات الذكاء الاصطناعي وإرشاداته، وربما لتدخّله المباشر في صياغة النصوص الجاهزة للتصوير. هذا الواقع فجّر احتجاجات واسعة لكتّاب السيناريو والحوار حول العالم، ليس بسبب شبهة سرقة الإبداع فقط، بل بسبب القطيعة الجوهرية بين هذا الذكاء والحسّ الإنساني المتشكّل داخل ثقافات أخلاقية واجتماعية متباينة. فالذكاء الاصطناعي، في جوهره الحالي، ليس أكثر من منظومة تجميعية لابتكارات سابقة أثبتت نجاحها. ومن هنا، فهو عاجز ــ حتى الآن ــ عن التمييز بين سياقات اجتماعية وثقافية متباعدة، أو عن إدراك الفوارق الدقيقة بين شخصيات تنتمي إلى بيئات متناقضة. الحدث الدرامي لديه يُقاس بوصفه معطى إحصائياً، لا تجربة إنسانية. وهذه المفارقة يدركها المحترفون جيداً، من دون أن يملكوا وسيلة حقيقية لتجاوزها. تسعى شركات التمويل والإنتاج المحلية، بدورها، إلى محاكاة منتجات المنصّات العالمية، في محاولة للتماهي مع نموذج أثبت نجاحه التجاري. غير أن هذا السعي يساهم في ترسيخ أنماط فرجوية مروّضة، تُقصي السياقات المحلية لحساب قوالب جاهزة، صُنعت وتكرّست عبر تاريخ طويل من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني. والنتيجة خلط متزايد بين الدراما التلفزيونية والسينما داخل نماذج البث الرقمي، حيث تُقدَّم المسلسلات بوصفها أفلاماً سينمائية ممتدّة زمنياً. يبدو هذا الخلط جزءاً من عملية إخضاع تسويقي تهدف إلى توحيد الجمهور عبر توحيد السلعة. وهو مسار غير خطِر في حدّ ذاته، إذ إن موازين القوة تميل حالياً بوضوح لمصلحة المنصّات. إلا أن هذه المرحلة يمكن قراءتها بوصفها تمهيداً لمرحلة لاحقة في تاريخ الفرجة، مرحلة ما بعد المنصّات، التي تتشكّل ملامحها منذ الآن. السؤال الذي يواجه الدراما التلفزيونية المحلية، والعربية خصوصاً، يتمحور حول قدرتها على موازاة هذه المنصّات الخاضعة لشروط الذكاء الاصطناعي، أو تجاوزها. ويبدو أن الإجابة، في الوقت الراهن، تميل إلى التشاؤم. فالجهد الابتكاري المحلي لم يتحوّل إلى رصيد إحصائي يمكن إدراجه ضمن المنظومات التقييمية العالمية، كذلك فإن موضوعاته لا تزال تنتمي إلى فضاءات ما قبل النمطية الكونية. تعود هذه الفجوة إلى عوامل بنيوية، في مقدّمها البيئة الرقابية التي تُقصي كثيراً من الابتكارات قبل تبلورها، لأنها لا تنسجم مع النمط الحقوقي الذي تقوم عليه مقاييس الذكاء الاصطناعي. فمقولات من قبيل "حكومة ثرية وشعب فقير" تظل عصيّة على الفهم الخوارزمي، لا بسبب اللغة فحسب، بل لأن التناقض ذاته خارج عن منطق النمذجة الذي يُدار به هذا الذكاء. من هنا، تبدو ملاحظاته وتوصياته غريبة عن أولويات الكاتب المحلي، بل أحياناً غير قابلة للتقبّل. تقف الدراما العربية، في هذا السياق، أمام مأزق وجودي مؤقت: فهي عاجزة عن الارتهان الكامل لإرشادات الذكاء الاصطناعي، كذلك فإنها غير قادرة على تجاهله. هذا التناقض يعيد تشكيل أسباب الكتابة ووظائفها، ويقود إلى تحوّل فعلي في بنية الحدث الدرامي، وفي مقاصد الكاتب ورؤيته للعالم. بدأت ملامح هذا التحوّل بالظهور من خلال مؤسسات الاستكتاب، التي تُخضع النصوص لتقييم خوارزمي يحدّد صلاحيتها للإنتاج، أو يفرض عليها تعديلات إلزامية. في هذا السياق، تتقلّص مساحة المبادرة الفردية، وتتحوّل الكتابة إلى تفاوض دائم مع منظومة تقييم غير مرئية. لا مفرّ من التعامل مع الذكاء الاصطناعي، لكن الإشكالية تكمن في الحدود. فمن الناحية الكمية، تتآكل مساهمة الكاتب تحت وطأة التعليمات المتلاحقة، ومن الناحية الكيفية، يُدفع النص نحو معايير نموذجية مستمدّة من تجارب عالمية سابقة. هنا يصبح الخيار حادّاً: إما الانخراط في إدارة هذا الذكاء، وإما القبول بدخول النص الدرامي في حالة عطالة. صحيح أن محركات الذكاء الاصطناعي قادرة اليوم على إنتاج سيناريوهات كاملة قابلة للتسويق، خصوصاً عبر النسخ المدفوعة، لكن المفارقة أن هذه المحركات نفسها تعود لتفرض تعديلات جديدة على ما تنتجه. قد يكمن الحل في استثمار هذا الذكاء بوصفه خزاناً معرفياً، ثم الانفلات منه في لحظة التنفيذ الإبداعي. لقد أصبح مسار الكتابة البشرية ومسار الكتابة الآلية متلازمين، بفعل السوق من جهة، وبفعل التراكم المعرفي الهائل من جهة أخرى. ومع غياب القدرة المحلية على إنتاج تكنولوجيات بديلة، واستحالة الخروج من منظومة السوق، لا يبقى أمام الكتّاب سوى ابتكار صيغ جديدة للإبداع، تحاور التكنولوجيا من دون أن تُبتلع داخلها. في المحصلة، تظل القيمة الحاسمة للتفاعل الإبداعي البشري، الذي أنتج هذا الذكاء التجميعي من خبراته المتراكمة عبر التاريخ. وتبدو المعادلة واضحة، وقاسية في آن واحد: إمّا التفاعل الواعي مع التكنولوجيا، وإما الإزاحة التدريجية ومجاورة الفناء.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows