Arab
كنتُ أقرأ مقطعاً شعرياً يقول: "الغربة هي أن تسافر بعينيك بين الوجوه الحاضرة... فلا يُبصر قلبك سوى ذلك الوجه الغائب"، وقد أحالني المقطع إلى التأمّل في معنى الغربة التي تأتي أحيانًا لا من قلّة الناس حول الإنسان، بل من كثرتهم الفائضة، التي تُشبه الغثاء، والتي يبحث الإنسان فيها عن وجهٍ واحد غائب يَفهمه، فيُغنيه.
في أثناء تأمّلي للمقطع السابق، تذكّرتُ أحوالي مع الغربة، فرغمَ كثرة المُحيطين بي، إلا أنّ الغربة طالما عصفت بي في لحظة كنتُ أبحثُ فيها عن وجهٍ واحد يفهمني، ويُصغي إلى أفكاري وهواجسي ودواخلي، كنتُ أبحثُ عن وجهٍ أُعبّر عن نفسي أمامه كما يجب، وأَسردها عليه كما هي، بلا أقنعة أو مثالية زائفة.
استمرّ بحثي عن هذا الوجه طويلاً، حتى عثرتُ عليه في مكانٍ لم أتوقّعه، في نادٍ للقراءة اسمه "بوك توك"، تأسّس في منتصف عام 2023 في نابلس، وصرتُ أرتاده بشكل دوري، وأشعر أنّ وجوه الرفاق التي فيه هي بالنسبة إليّ ذلك الوجه الغائب الذي طالما بحثتُ عنه.
حوارات من شتات الكتب
لعلّ أجمل ما في "بوك توك" أنّه عبارة عن مساحة حرّة ومتحرّرة من كلّ التقييدات، حتى تلك المتعلّقة بمناقشة كتاب واحد، فهو مساحة نَحمل إليها، باعتبارنا مُرتادين، كتبنا وأفكارنا، ونعرضها ونستعرضها، فنُعبّر عن أنفسنا، وكأنّنا نطلب عيناً تُبصِر، وأذناً تُصغي، وعقلاً يفهم، وقلباً يشعر.
حلقة كلامية متصلة، ندخلها محمّلين بأعباء ما لا يُقال، ونخرج منها وقد تنفّسنا بالكلام
الجميل في حوارات "بوك توك" أنّها تُمكّننا دائمًا من أن نحرّر أنفسنا بالكلام والاستعارات، على طريقة محمود درويش. فنحن، في كلّ مرّة نناقش فيها كتباً، أو نطرح أفكاراً، أو نقرأ مقاطع شعرية أو نثرية، هناك لحظة معيّنة ننحرف فيها إلى نقاش مفتوح، يأخذنا إلى مواضيع أخرى تماماً. فقرة واحدة تكفي لفتح نقاش تتعدّد ثيماته وتتنوّع، ليكون دخولنا في الحوار بمثابة حلقة كلامية متصلة، ندخلها محمّلين بأعباء ما لا يُقال، ونخرج منها وقد تنفّسنا بالكلام.
مساحة للصراحة الفائضة
طالما ذكّرتني مساحة "بوك توك" الاعترافية بالصدق في أكثر صوره حضوراً وعراءً؛ ذلك الصدق الذي لا يتجمّل ولا يطلب الإذن، بل يخرج كما هو، خشناً ومكشوفاً.
نرتاد البوح كوسيلة للتطهّر الصريح، فنخلع عنّا أقنعتنا من دون خجل، ونكون في أشدّ حالاتنا شبهًا بأنفسنا
تُقرّبنا جلسات "بوك توك" من مفهوم الصدق العاري والصراحة الفائضة؛ فنحن فيها نسرد أنفسنا على حقيقتها، كما لو كنّا لا نعرف مفهوم الخشية. فهيَ أشبه بجلسات مصارحة علنية، مُخصّصة لأغراض البوح والاعترافات الحميمة؛ يبوح أحدنا فيها بطفولته المهشّمة، وآخر بخوفه من الوحدة والزواج، وثالث بعجزه عن الإيمان، وكأنّنا هنا نرتاد البوح وسيلةً للتطهّر الصريح، فنخلع عنا أقنعتنا من دون خجل، ونكون في أشدّ حالاتنا شبهاً بأنفسنا.
جلسات على طاولة... في وجه السلطة الرمزية
عندما أفكّر في مجموعتنا القرائية في "بوك توك"، التي تعقد جلساتها في مقاهي نابلس، يحضر في ذهني وجه المدينة المُحافظ، والصلب، والثابت، والذي يحتاج إلى حركة ثقافية خارجة عن الأطر الرسمية، لتخرجه عن جموده، ولتمنحه قليلًا من المرونة.
أفكّر بأنّ "بوك توك" جاء، بلا قصدٍ منا، لينعشَ وجه المدينة، ويجعلها تتنفّس هواءً حرًّا نصنعه بلقاءاتنا وحواراتنا فيها. فأن نكون مجموعة من الشباب والصبايا، يلتقون دوريًا في العلن، يقرؤون ويُفكّرون ويطرحون الأسئلة، كلّ ذلك كان تحدّيًا مزدوّجًا؛ لسلطة المجتمع الرقابية، في المدن المُحافظة، التي تريد أن تُبقي الذكور والإناث في مربّعات منفصلة، بلا لغة مشتركة، ولا خيال مُشترك، وللسياسات الثقافية التي لا ترى الثقافة إلا من خلال مؤسّسات مُعلّبة، لا من خلال لقاء عابر بين شغوفين بالقراءة على طاولة خشبية في مقهى.
وكأنّ جلساتنا في "بوك توك" كانت شكلاً من أشكال الحرب الرمزية التي نخوضها على أكثر من صعيد؛ ضدّ القوالب الجاهزة التي تفرضها البيئات المُحافظة، وضدّ تكلّس الثقافة الرسمية، وضدّ ابتلاع السوق للحساسية القرائية، وضدّ الرقابة التي تُجرّم الفكر الحرّ.
نُمارس طقسًا خفيفًا، لكنّه ثوري؛ نُمارس حقّ الحضور، وحقّ الفضول، وحقّ الاختلاف
وكأنّنا في جلساتنا كنا نُمارس طقسًا خفيفًا، لكنّه ثوري؛ نُمارس حقّ الحضور، وحقّ الفضول، وحقّ الاختلاف، وكأنّنا كنّا نكتب روايتنا الخاصة عن مدينةٍ خافتة الصوت، وجد فيها الغرباء بعضهم البعض، وصنعوا مساحة تُشبههم.
رفاق "بوك توك" الذين يُشاركونني مساحاتي المفضّلة
في مرّة من المرّات، قالت لي صديقة في لقائنا الأوّل بعد معرفة طويلة على منصّة "فيسبوك": "ممتنّة لهذا العالم الافتراضي، لأنه أتاح لنا أن نلتقي بكلّ هذه الأرواح التي نحبها وتشبهنا"، ومنذ أن قالت لي ذلك، وأنا أبحث عن مسمّى لأولئك الأرواح الذين نحبّهم ويشبهوننا، ولم أجد أصدق من كلمة "الرفاق" لأصفهم بها، ولأصف ما تجمعني بهم من مساحات تلاقٍ في الفكر، والأدب، والموسيقى، والفنّ.
سميتهم كذلك، وصرتُ أتحرّاهم كما يتحرّى العاشق القمرَ في ليلة تمامه. أعترفُ بأنّني وجدتُ كثيراً من هؤلاء الرفاق في "بوك توك"، وأنّهم صاروا جميعًا علاماتٍ مضيئة في دربي، وأدلّة على الأرواح التي تتلاقى قبل أن تتصافح الأيدي.