وهم الإعمار… ديكور يسقط مع أوّل قطرة مطر
Arab
1 week ago
share
كلُّ شتاء يُعيد لنا المشهد نفسه، أوّل قطرة مطر كفيلة بأن تكشف الكذبة التي بُنيت عليها دعاية إعادة الإعمار طوال أشهر الصيف. في شرق ليبيا، كما في غربها، طرقٌ تتحوّل إلى أنهار، أحياء تُغرقها برك الصرف الصحي، أوهام تتلاشى مع الغيوم. كلُّ ما رَوّجت له الرواية الرسمية على أنّه نهضة عمرانية يتبدّد في لحظات. لم أفهم يوماً معنى الاحتفال بملعب كرة القدم، أو فندق فارهٍ، أو "كوبري" بشع في بلدٍ عاجز عن توفير شبكة صرف صحي، أو كهرباء مستقرّة، أو إنترنت محترم، أو حتى طرق خالية من الحُفر، عوضاً عن المستشفيات والمدارس والجامعات. المفارقة أنّ هذه المشاريع لا تُقدَّم كإنجاز خدمي يستفيد منه الناس، بل كدعاية للمسؤول وكورقة ابتزاز ومساومة. كلُّ طرفٍ من أطراف النزاع يريدك أن تنسى القمع والفساد والظلم والجرائم المُستمرّة، مقابل رصف طريق أو ترميم مسجد أو صيانة مطار مُتهالك. وهذا بالضبط ما يميّز الدول المُستقرّة عن حالتنا: هناك تأتي المشاريع وفق خطّة وتخطيط، أما هنا فهي شكل آخر من أشكال الصراع على السلطة. نحن، أبناء الطبقة المطحونة، لا يعنينا فندق خمس نجوم لا نستطيع دفع ثمن قهوة في بهوه، ولا ملعب لا نستطيع دفع ثمن تذكرة حضور مباراة فيه، بينما مدارسنا بلا كتب ومستشفياتنا بلا أسِرّة. لا أرى قيمة لطلاء واجهة عمارات مُتهالكة بينما قواعدها مليئة بالشقوق. كذلك لا أرى منطقًا في أن تُطلب مني الطاعة والرضا مقابل عمليات تجميل فاشلة، تخفي وراءها بشاعة الفساد والظلم. لا أحد يملك الحقّ في مساومة الناس على حقّهم في نقد الرداءة، وحقهّم في مساءلة الفاسدين، وحقّهم في رفض أن يتحوّل الوطن إلى معرض لمشاريع تافهة لا تخدم إلا الطبقة المخملية، بينما البنية التحتية منهارة، فيما يتفرّج الكادحون من بعيد، ينتظرون في طوابير لا متناهية للحصول على الخبز أو البنزين أو أسطوانات غاز تقيهم برد الشتاء. لا يمكن أن تكون هناك نهضة عندما تُقَيَّد الرقاب بالسلاسل والأقفال إعادة الإعمار الحقيقية تبدأ من الإنسان، من التعليم الذي دُمِّر على مدى عقود، ومن النظام الصحي المنهار، ومن البيئة التي تحوّلت إلى مكبّ قمامة كبير، ومن البنية التحتية والخدمات الأساسية التي تحفظ كرامة البشر. الحجر وحده لا يقيم دولة. التجارب حولنا تقول الشيء نفسه؛ في العراق بعد عام 2003، ضُخّت مئات مليارات الدولارات تحت عنوان الإعمار، لكن الفساد والمُحاصصة والصراع حوّلت كلّ شيء إلى مشاريع شكلية في دولة تتفكّك مؤسّساتها. وكذلك جارتنا مصر، التي يبدو أنّ جماعتنا استلهموا من تجربتها؛ استثمرت في مشاريع ضخمة وطرق وجسور ومدن جديدة، لكنّها تركت التعليم والصحة ينهاران، فصار الإعمار أداة دعائية لتثبيت القمع والترويج له، أكثر منه رؤية لبناء دولة ومجتمع متقدّم. لا قيمة لأيّ مشروع عمراني في بلد يخاف فيه الناس حتى من مجرّد الكلام لكن كلّ ذلك لا معنى له، إن كان الناس غير أحرار. لا قيمة لأيّ مشروع عمراني في بلد يخاف فيه الناس حتى من مجرّد الكلام، ويحسبون فيه أحرف كلماتهم قبل أن يكتبوا تعليقًا على التواصل الاجتماعي. لا قيمة للبنيان عندما تُسلب أبسط حقوق الإنسان الأساسية. كلّ تجارب إعادة الإعمار الناجحة في العالم بدأت باحترام الحدّ الأدنى من حقوق الإنسان قبل وضع أوّل حجر. هذا ليس ترفاً، بل هو الأساس الذي يُقام عليه أيّ إعمار حقيقي ومُستدام. لا يمكن أن تكون هناك نهضة عندما تُقَيَّد الرقاب بالسلاسل والأقفال، مهما تعدّدت وعلت السرديات التي تُسوّق العكس. شخصياً لم أطالب يوماً بالإعمار، لأنّه نتيجة طبيعية لدولة تحترم آدمية الإنسان. وحين تُحفَظ الحقوق، وتُصان الحرّيات، ويسود القانون، ويُحاسَب المجرمون، وتتحقّق العدالة للضحايا، سيأتي الإعمار وحده، بلا بروباغندا، ولا حفلات قصّ شريط. أما قبل ذلك، فكلّ ما نراه مجرّد ديكور يسقط مع أوّل قطرة مطر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows