تشيلي عند مفترق تاريخي... انتخابات رئاسية تحت ظلال الذاكرة والانقسام
Arab
1 week ago
share
تقف تشيلي اليوم الأحد، عند لحظة سياسية استثنائية، من تلك اللحظات التي تعود فيها الأمم إلى مواجهة أسئلتها الأولى: من نحن؟ ماذا نتذكر؟ وما الذي نختار نسيانه؟ إذ إن انتخابات الرئاسة الجارية لا تبدو مجرد تنافس بين مرشحين، بل اختباراً جماعياً لذاكرة بلدٍ ما زال يعيش في ظل انقلاب دموي وقع قبل أكثر من نصف قرن، ولا يزال يرسم حدوده السياسية والنفسية. مع تقدم المرشحة الشيوعية جانيت خارا في الجولة الأولى بنسبة نحو 27%، مقابل 24% لمنافسها اليميني المتشدد خوسيه أنطونيو كاست، عادت تشيلي في جولة الإعادة اليوم إلى انقسام حاد يعيد إنتاج صراع قديم: يسار يرى نفسه امتداداً لإرث سلفادور أليندي ومشروع العدالة الاجتماعية، ويمين يستحضر خطاب "الدولة الصلبة" التي يقول إنها أنقذت البلاد من الانهيار، متسامحاً مع انقلاب أوغستو بينوشيه عام 1973، من دون وصفه بالديكتاتورية، بل باعتباره "حكماً عسكرياً". الذاكرة ساحة معركة في سانتياغو، يقف متحف الذاكرة وحقوق الإنسان (Museo de la Memoria y los Derechos Humanos) شاهداً حياً على هذا الانقسام. الردهة التي تضم 1883 صورة لضحايا القمع ليست مجرد أرشيف، بل جرح مفتوح في الوعي الوطني. هنا لا يُطرح سؤال "ماذا حدث؟" فقط، بل سؤال أخطر: "من يملك حق رواية ما حدث؟". يرى اليسار في المتحف واجباً أخلاقياً وضمانة لعدم التكرار، بينما يعتبره اليمين المتشدد، وفي مقدمته كاست، حاملاً لرواية "انتقائية" تتجاهل، برأيه، الفوضى الاقتصادية والسياسية التي سبقت الانقلاب. هكذا تتحول الذاكرة نفسها إلى موضوع انتخابي، تماماً كما يحدث في البرازيل مع أنصار جايير بولسونارو، وفي الأرجنتين حيث تُعاد كتابة أرقام المختفين قسراً من حقبة الديكتاتورية العسكرية في بوينس آيريس. من الذاكرة إلى التمويل لم يبقِ الصراع في حدود الخطاب. فقد عرقل نواب اليمين تمويل عدد من المواقع التذكارية، في خطوة رآها اليسار محاولة لـ"خنق الذاكرة اقتصادياً"، بينما دافع عنها اليمين باعتبارها تصحيحاً لانحياز أيديولوجي. في هذا المناخ، لم يعد الماضي مجرد تاريخ، بل أداة سياسية لا تقل فاعلية عن برامج الضرائب أو الأمن. تشيلي تتغير… والمزاج يتحول تكشف استطلاعات الرأي تحوّلاً عميقاً في نظرة التشيليين إلى انقلاب 1973. ففي عام 2006، اعتبره 68% تدميراً للديمقراطية، بينما انخفضت النسبة إلى 42% عام 2023. في المقابل، تضاعفت نسبة من يرونه "تحريراً من الماركسية" تقريباً، من 19% إلى 36%. هذا التحول يعكس إحباطاً واسعاً من النخب، وحنيناً لدى قطاعات من المجتمع إلى "الدولة الصارمة"، رغم سجلها القمعي. ويغذّي هذا المزاج الإرث الاقتصادي لعهد بينوشيه: فالفقر تراجع من 45% عام 1985 إلى أقل من 7% عام 2022، لكن التفاوت بقي صارخاً، إذ يملك أغنى 10% نحو 60% من دخل البلاد. هذه المفارقة صنعت شعوراً متناقضاً: بلد تقدّم اجتماعياً وازدهر اقتصادياً، لكنه بقي غير عادل في عمقه. احتجاجات 2019: نقطة التحول في خريف 2019، انفجر هذا التناقض. سقطت أسطورة "تشيلي واحة الاستقرار"، وخرج مئات الآلاف احتجاجاً على غلاء المعيشة وتآكل الثقة بالمؤسسات. من رحم تلك الاحتجاجات، صعد اليساري غابرييل بوريك إلى الرئاسة واعداً بدفن النيوليبرالية وصياغة دستور جديد. لكن الاندفاعة انكسرت عندما رفض الناخبون مسودة الدستور بأكثر من 60%. تراجعت شعبية بوريك، تشرذم اليسار، وفتح الفراغ الباب أمام صعود اليمين المتشدد، الذي استثمر مخاوف الناس من تراجع الاقتصاد والجريمة والهجرة، خصوصاً من فنزويلا. رؤيتان… وسرديتان إذاً، في قلب الاستحقاق الحالي، تتواجه رؤيتان لا تختلفان في السياسات فقط، بل في معنى الدولة والتاريخ. كاست يمثل يميناً محافظاً متشدداً يرى في الحكم العسكري فترة "استقرار"، ويدعو إلى تقليص دور الدولة وتشديد القبضة الأمنية، مع تلميحات إلى طيّ صفحة الماضي. في المقابل، تقدم خارا نفسها بوصفها امتداداً لإرث أليندي، مدافعة عن دولة اجتماعية قوية، وعن الذاكرة باعتبارها شرطاً للعدالة وضمانة للمستقبل. على ماذا يصوّت التشيليون؟ قد تبدو القضايا الاقتصادية والأمنية في الصدارة، لكنها في العمق متشابكة مع سؤال أعمق: هل يُبنى المستقبل بمواجهة الماضي… أم بتجاوزه؟ بين يمين يريد إغلاق ملف الديكتاتورية، ويسار يحذر من أن النسيان يفتح الباب لتكرار المأساة، تقف تشيلي عند مفترق يشبه كثيراً مفترق سبعينيات القرن الماضي. تشيلي مرآة للقارة ما يجري في تشيلي ليس حدثاً معزولاً، بل حلقة في موجة إقليمية تعيد رسم المشهد السياسي في أميركا اللاتينية، حيث يتقدم اليمين المتشدد عبر خطاب الهوية والخوف والغضب من النخب، في مقابل يسار يبدو إما مستنزفاً داخلياً وإما عاجزاً عن تجديد لغته. لذلك تبدو الانتخابات التشيلية اختباراً يتجاوز حدودها الوطنية ليطاول القارة بأكملها. فكاست ينظر إلى أن هذا اليمين انتصر في واشنطن وروما وبوينس آيرس وغيرها. إذ إن فوز خوسيه أنطونيو كاست سيكرّس تحولاً يمينياً عابراً للحدود، يرى نفسه امتداداً لانتصارات مماثلة في القارة. أما فوز جانيت خارا، فسيكون انتصاراً للذاكرة في مواجهة إعادة تأويل التاريخ، من دون أن ينهي الصراع، بل مانحاً اليسار فرصة جديدة لإعادة بناء مشروعه في سياق إقليمي يتغير بوتيرة أسرع من أدواته التقليدية. مستقبل أم ذاكرة؟ أم كلاهما؟ تقف تشيلي اليوم أمام سؤال قديم يتجدد: هل يمكن بناء مستقبل دون مواجهة الماضي؟ أم أن الماضي نفسه مادة الصراع التي تشكل المستقبل؟ الناخبون الذين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع لا يختارون مرشحاً فقط، بل يختارون سردية. وفي بلدٍ حمل ندوب التاريخ على مدى عقود، قد يكون السؤال الأعمق: من سيكتب قصة تشيلي في العقود القادمة؟ الذاكرة… أم القوة؟ بهذا المعنى، تبدو تشيلي اليوم مرآة لأميركا اللاتينية بأكملها: بلد يعيش بين ذاكرة لا تنطفئ، وواقع مأزوم، ومستقبل مفتوح على احتمالين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر. ولعل السؤال الذي يهم القارة كلها، وليس تشيلي فقط، هو إن كان هذا الغضب اليميني سيعيد تشكيل السياسة اللاتينية لعقود مقبلة، أو أن اليسار سيجد الشجاعة والرؤية التي تحدث عنها عالم الاجتماع والسياسي البوليفي غارسيا لينيرا ليصوغ بديلاً جديداً تتسع له فروق الزمن وتناقضات المجتمع.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows