دستور يا أسياد
Arab
2 hours ago
share

"ليست الحريّة، كما قد تبدو من أصل الاسم، إعفاء من كلّ القيود، بل إنها في الواقع أكثر الاستخدامات فعالية لكلّ قيد عادل على كلّ أعضاء مجتمع حر، سواء كانوا حُكّاماً أم رعايا".

(الفيلسوف الاسكتلندي آدم فيرغسون)

دَستور: اسم. والجمع: دَساتير. والدستور: القاعدة يعمل بمقتضاها. والدستور: الدفترُ تُكتب فيه أسماءُ الجند ومرتَّباتهم. الدستور في الاصطلاح المعاصر: مجموعةُ من القواعِد الأساسية التي تُبيِّن شكل الدولة ونظام الحُكم فيها ومدى سلطتها إزاءَ الأَفراد. وقد يكون الدستور مكتوباً أو غير مكتوب. يقول الشاعر أحمد محرم:

قل للألى جعلوا الدستور مهزلة... الدهر يضحك من دستوركم عجبا.

وأقول: هل يمكن تخيّل طفل يتعاقد مع والديه ليولد، ويقول لهم: دستور يا أسياد؟ وهل يمكن له أن يختار مكان وزمان وطريقة ولادته؟ إنّها فكرة مُنافية للعقل. وتُبيّنُ منافاتها للعقل إنّ أوّل رابطة بين البشر، أي رابطة الولادة، غير مُتعاقد عليها بين المعنيِّين بها من خلال الدستور. ومع ذلك، ينزع مجتمعنا إلى أن يضرب صفحاً عن مثل هذه الوقائع التي لا يمكن تفاديها.

ولكن ولادة الدستور في أيّ أمة هو عملية معقّدة وصعبة يُسهم فيها جميع أفراد الشعب الأحياء منهم والأموات. هل يولد الدستور من رحم الأمة ولادة طبيعية، أم أنّ ولادته مُستعصية، أي صعبة، ويحتاج معها إلى عملية قيصرية؟ ولمن تعود ملكية الدستور بعد ولادته؟

يحاجج عالم الاجتماع الفرنسي، موريس غودلييه، بأنّ الدستور أو العقد الاجتماعي المُبرم بين أفراد المجتمع الأحرار ليس ملكاً لأيّ فرد بحدّ ذاته. إنه ملك عام (وملكيته غير قابلة للنقل، وبالتالي البيع أو الشراء) لجميع أولئك الذين يخضعون له لأنهم اختاروه وأقرّوه بالتصويت الحر. ولكن لكي يتم ذلك يجب أن يتصرّفوا كمواطنين أحرار، لا رعايا خاضعين لسلطة فرد يكاد يتمتّع بالحق الإلهي في الحكم. وتتشكّل الهيئة المؤسّسة (أي دعامة الدستور) من جميع المواطنين الأحياء منهم والأموات الذين توالوا على أرض الأمة منذ أن نصّب الشعب نفسه للمرّة الأولى سيّداً ومصدراً للقوانين. وقد برزت هذه الهيئة كما يؤكّد موريس غودو لييه (على الأقل في وطنه فرنسا) مع الثورة الفرنسية ومع تشكّل أوّل مجلس تأسيسي. واستمر وجود هذه الهيئة منذئذ بشكل من الأشكال عند السواد الأعظم من أمم الأرض.

الدستور الذي يؤسّس حقوق الأفراد جماعي بجوهره

قد يتغيّر الدستور وتأخذ الدول أشكالاً متنوّعة من الملكية الدستورية إلى الجمهورية. لكن تبقى الهيئة نفسها مستمرة خلف كلّ تغيّرات الدستور هذه. فالهيئة المؤسّسة للدستور هي واقع جماعي غير قابل للتقسيم، وواقع فكري ومادي لا زمني يعبر الزمن، وهو لن يزول إلا إذا زالت الديمقراطية لفترة طويلة. فالأمر لم يعد يختص بهيئة فرعونية أو هيئة إلهية، وإنما بهيئة شعب سيّد ممثَّل ومتجسّد بصورة مؤقتة في رئيس للجمهورية. ويصبح رئيس الجمهورية بعد أن تنتخبه الأغلبية من الأمة رئيساً لجميع المواطنين الأحرار في الدولة. ويصبح لبضع سنوات حامي الدستور ورمز الجمهورية. كما يضعه منصبه فوق الأحزاب وفوق النحل والطوائف والملل، فهو يجسد مؤقتاً وحدة وهُويّة الكل، أي الأمة التي تُعتبر الدولة أداة لها لا تجسيداً لها. إنه يصبح الوتد الذي تدور رحى الأمة حوله. وبعد برهة من الزمان يُستبدل هذا الوتد بآخر لتستمر رحى الأمة في دورانها. 

فالدستور الذي يؤسّس حقوق الأفراد جماعي بجوهره. إنه ملك عام لجميع أولئك الذين يعيشون تحت سيادته ويسلّمون به دستوراً لهم وملكية غير قابلة للبيع أو الشراء. إنّه هبة يقدّمها رجال ونساء أحرار لأنفسهم، وهو لا يؤسّس علاقاتهم الحميمة وإنما علاقاتهم الاجتماعية العامة. لقد أصبحت الدساتير التي أعطتها الشعوب لأنفسها معادلة بشكل ما للأغراض المقدّسة التي كان يعتقد البشر أنهم تلقوها من الآلهة لتساعدهم على العيش معاً، وبشكلٍ جيد.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows