
اسمان عربيان برزا الأسبوع الماضي في المشهد السياسي الأميركي، يستحقّ كلّ منهما التوقّف عنده. الأول محمود خليل (29 عاماً). ففي جملة انغماسه المستجدّ بالشأن الفلسطيني (وبطريقته الخاصّة)، بدا الرئيس دونالد ترامب يقود بنفسه حملةً ضدّ طالب جامعي فلسطيني. إذ نفّذت مذكّرة توقيف تمهيداً للترحيل بحقّ طالب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا، محمود خليل، إعمالاً للأمر التنفيذي لسيّد البيت الأبيض الصادر يوم 29 يناير/ كانون الثاني الماضي (2025) بمكافحة معاداة السامية. مع أنه لم يُعرف عن هذا الشاب مثل هذه المعاداة، وأبرز ما في سجلّه أنه نشط في المظاهرات الجامعية الاحتجاجية، الربيع الماضي، ضدّ حرب الإبادة على غزّة. وقد أثار هذه الإجراء موجةَ اعتراضٍ واسعة داخل الولايات المتحدة، فقد وقّع أكثر من 1.7 مليون شخص رسالةً للمطالبة "بالإفراج الفوري" عن خليل، وفقاً لعريضة في منصّة Action Network، كما أصدر زعيم الأقلّية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، الديمقراطي من ولاية نيويورك، بياناً يدعم خليل، قال فيه: "لدى محمود خليل إقامة دائمة، ومتزوّج من مواطنة أميركية، حامل في شهرها الثامن. تتعارض تصرّفات إدارة ترامب إلى حدّ كبير مع دستور الولايات المتحدة". كما خرج مئات من الشبّان في مسيرتَين منفصلتَين في نيويورك احتجاجاً على هذا القرار. فيما أصدر القاضي في المحكمة الفيدرالية بمانهاتن في نيويورك، جيسي فورمان، قراراً بعدم ترحيل محمود خليل "ما لم تأمر المحكمة بخلاف ذلك".
بينما قال دونالد ترامب في تغريدة في المنصّة التي يملكها (تروث سوشيال) إن "اعتقال خليل كان أوّل اعتقال، وهناك الكثير، نحن نعلم أن هناك المزيد من الطلاب في كولومبيا وجامعات أخرى في جميع أنحاء البلاد شاركوا في نشاط مؤيّد للإرهاب ومعادٍ للساميّة ولأميركا، ولن تتسامح الإدارة مع ذلك". ووصف ترامب محمود خليل بأنه "متعاطفٌ مع الإرهاب". وبعد اعتقاله مساء السبت (8 مارس/ آذار)، نشر الحساب الرسمي للبيت الأبيض في "إكس" منشوراً قال فيه بكلمات عبرية: "شالوم محمود"، ما يدلّ على أن الهدف من هذا الإجراء المتعسّف تقديم هدية تبهج الحكومة الإسرائيلية. لم توجّه تهمةٌ رسميةٌ للناشط خليل، لكنّ تصريحات ترامب ومسؤولي إنفاد القانون تفيد بأنه متحالفٌ مع جماعة "إرهابية" (حركة حماس) وأنه يعادي اليهود. وهي اتهاماتٌ باطلة، فليس في سجلّ الشاب شيءٌ من هذا، والهدف الرسمي محاباة اللوبي الصهيوني وشيطنة أيّ انتقاد للاحتلال الإسرائيلي وللحرب الوحشية على غزّة.
يقتضي الوضع أن نتمسّك بحقّنا الشرعي في تحديد مسار قضيتنا بعيداً من العاطفة والشعارات
بهذا السلوك المفرط في تحيّزه ضدّ شاب عربي، توّاق لإرساء العدالة، ويحمل إقامةً دائمةً في الولايات المتحدة، نجحت الإدارة الأميركية في تحويل هذه المسألة قضيةَ رأي عام، ومسألةً داخليةً تتعلّق بالأميركيين، وتعمّق الانقسام وحالة الاستقطاب بين من ينادون بالتمسّك بالمبادئ الدستورية ورفض تسييس القانون واحترام الأسس الديمقراطية، ومن يعتقدون أن كلّ ما يصدر عن الرئيس صواب وغير قابل للجدل، مع توجيه أكبر قدر من الكراهية ضدّ الوافدين من أصول شرق أوسطية وعربية. وقبل أيّام من اعتقال خليل، نشر الاتحاد الأميركي للحرّيات المدنية رسالةً إلى رؤساء الجامعات، يدين فيها الأمر التنفيذي لترامب، باعتباره "انتهاكاً لضمان التعديل الأوّل لحرّية التعبير". وورد في البيان "حملة ترامب القسرية أخيراً، في محاولة لتحويل مديري الجامعات ضدّ طلابهم وأعضاء هيئة التدريس، تعود بنا إلى العهد المكارثي وتتعارض مع القيم الدستورية الأميركية والمهمة الأساسية للجامعات".
وبينما نجحت الإدارة في إظهار الانقسام وتغذيته، فقد نجح الشاب خليل في البرهنة على أن الوقوف مع العدالة في كلّ مكان، بما في ذلك في موطنه، ينسجم تماماً مع المبادئ الدستورية والقانونية في البلد الذي اختاره للدراسة، وبناء حياةٍ فيه، وكما سبق لعائلة ترامب أن فعلت قبل عشرات من السنين. وعلى خلاف ما كان مقصوداً من إيذاء هذا الشاب وشيطنة قضيته، فقد كسبت قضية فلسطينيين المزيد من الداعمين والمهتمّين بين الجمهور الأميركي، وبالذات بين فئة الشباب منهم.
وجّهت تهمة التحالف مع "حماس" للناشط محمود خليل محاباةً للوبي الصهيوني وشيطنةً لأيّ انتقاد للحرب الوحشية على غزّة
ومن المفارقات الدالّة على حيوية المجتمع الأميركي والحضور العربي فيه، أن الأسبوع الماضي شهد بروز اسمٍ لشابٍّ عربيٍّ آخر، إلى جانب اسم الطالب محمود خليل. والمقصود بشّار المصري، وهذا ملياردير أميركي فلسطيني، يكبر محمود خليل بعشر سنوات على الأقلّ، وقد وصفته وسائل إعلام إسرائيلية أنه المستشار الأقرب لمبعوث الرئيس ترامب لشؤون المحتجزين الإسرائيليين، آدم بولر، المبعوث الذي قاد أوّل حوار أميركي مع حركة حماس في الدوحة. وهو قريبٌ جدّاً من بولر، الذي يستخدم الطائرة الخاصّة للمصري في تنقّلاته، وتكشف المعلومات المثيرة أن طائرة المصري، التي يستخدمها بولر، سبق للرئيس الراحل ياسر عرفات أن استخدمها. إنّها حقّاً معلوماتٌ على جانب من الإثارة السياسية، وقد نشرها موقع "العربي الجديد" (الأربعاء الماضي) مع إشارة المصادر الإسرائيلية إلى أن المصري ليس ناشطاً سياسياً ولا يُحتسب على "فتح" أو "حماس"، غير أن الرجل ليس بعيداً كلياً من عالم السياسة، فهو، رغم إقامته المديدة في أميركا، ووضعه المالي الاستثنائي، إلا أنه يبقى معنيّاً إلى درجة كبيرة بقضية شعبه، وهو ما يكشف عنه حوار أجرته معه وكالة رويترز، قال فيه إن "المساعي المستمرّة لإفقادنا الأمل بالحرّية والاستقلال يجب أن تُقابل بإرادة، ومبادرة فلسطينية صلبة، تخلق الأمل من كلّ الظروف السياسية الصعبة. يقتضي الوضع أن نتمسّك بحقّنا الشرعي في تحديد مسار قضيتنا بعيداً من العاطفة والشعارات. موقفنا من اتفاقيات التطبيع يجب أن ترافقه مطالبة الدول المطبّعة بالضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان ولإقامة الدولة الفلسطينية". وفحوى هذا الرأي، أنه مع الاعتراض على اتفاقيات التطبيع، ينبغي استذكار أن التطبيع سُوّغ من أصحابه بأنه يوفّر وسيلةً للضغط على إسرائيل كي توقف الاستيطان، ولا تعرقل قيام دولة فلسطينية، وهي دعوة من الرجل إلى هذه الدول الشقيقة، بعد أن تمسّكت بالتطبيع "حقّاً سيادياً" لها، بأن تمارس الضغوط من أجل إعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها.
هذا الموقف لبشّار المصري جرى احتسابه من شخصيات فلسطينية تبريراً للتطبيع أو ترويجاً له، وشنّت حملة تهكّم وسخرية بحقّه على هذا الأساس المغلوط، وأُعفيت بذلك الأطراف الإسرائيلية من محاولة شيطنة سمعة الرجل أو تشويهها، بعد أن بادر بعضهم بأداء هذه المهمة ضدّ رجل أعمالٍ نجح في التموضع داخل دائرة ترامب، مع تمسّكه، في الأثناء، بأهمية التحلّي بإرادة فلسطينية صلبة لبقاء الأمل مضيئاً في النفوس. وهذه مناسبة لإزجاء التحيّة للمصري، ولنموذجه الخاصّ بالحضور العربي في بلاد العمّ سام.
