مسؤوليّتنا في أحداث الساحل السوري
Arab
22 hours ago
share

شهد الساحل السوري، منذ 6 مارس/ آذار الجاري، مجازر طائفية رهيبة، كنّا اعتقدنا (ساذجين ربّما)، أن سورية تجاوزتها، وبدأت تضع أقدامها في طريق جديد، بعد أن تخلّصت من نظام المجازر. كانت شرارةَ انطلاق المجازر في الساحل عمليةٌ عسكرية (كمين) لعناصر من النظام السابق ضدّ دورية للأمن العام، راح ضحيّتها أفراد الدورية كلّهم، ثمّ رافق عمليات الإبادة الطائفية التي انطلقت عقب هذا الكمين مجموعة كمائن غادرة ومنسّقة (الاستغاثة بدورية للأمن العام ثمّ استهداف الدورية المقبلة تلبيةً للنداء) من هذه العناصر المفلسة سياسياً وأخلاقياً، حتى في أوساط السوريين العلويين، تسبّبت في استشهاد بين مائة ومائة وخمسين من عناصر الأمن العام، بحسب التقارير.

لم يصدُر من المجتمع العلوي ما يؤيّد هذه العمليات ضدّ عناصر الأمن العام، الذين غالباً ما كانوا الجهة التي يستنجد بها (وليس ببقايا النظام) العلويون خوفاً من جماعات الإبادة، كما لم يذهب شباب الطائفة العلوية إلى الانضواء مع هذه العناصر المجرمة، التي تبحث عن زعزعة الأمن، كي تجد لها مخرجاً من المحاسبة. لم يذهب العلويون إلى الموت، لا سعياً وراء إعادة نظام كان قبل سقوطه أصلاً في عداد الأموات، ولا دفاعاً عن "فلولٍ" مفلسين، لكن الموت جاءهم وهم في بيوتهم، بعد أن سلّم منهم من كان يملك السلاح سلاحه إلى الدولة، وباتوا عزّلاً بالكامل. يشهد على ذلك أن أحداً من جماعات الإبادة لم يتعرّض لأيّ أذىً، بينما يقتلون العائلات واحدة واحدة، ويتفنّنون بإذلال الأهالي وتعذيبهم وقطف أرواحهم، ويطلقون تصريحات طائفية مقزّزة، وينتقلون من قرية إلى أخرى بطريقةٍ تذكّر كاتب هذه السطور بحالة المهاجع في سجن تدمر، حين يبدأ فريق التعذيب جولته، فنسمع الأصوات وهي تقترب من المهجع، وليس لنا إلا أن ننتظر الوحشية المقبلة.

رحّب عموم السوريين العلويين بالسلطة الجديدة، ولم نشهد أيّ حوادث ضدّ القوات التي بدأت تشغل فراغ الدولة. إحدى العائلات التي أبيدت كانت قد نشرت صوراً لأفراد العائلة، عقب سقوط النظام، وهم يحتفلون بـ"النصر" ويرقصون رافعين شاراته ويلفّون أنفسهم بالعلم الأخضر. وقد نشر كثيرون المنشورات الوطنية والثورية لأحد الشباب من ضحايا المجزرة، ولم يكن هذا الشاب سوى ابن المرأة الشجاعة التي شغلت صورتها وسائل التواصل، وهي تردّ تهمة الغدر التي يوجّهها إليها قتلة غارقون في الغدر. ولكنّ ترحيب العلويين بالسلطة الجديدة تضاءل، وبدأ أملهم يخبو، على وقع ما راحت تُسمّى "التجاوزات الفردية"، التي كانت طوال الفترة الماضية بمثابة تمهيد وجسّ نبض قبل إطلاق العنان للمجازر.

كيف كان هؤلاء، الذين تفوح من أفواههم رائحة الجثث اليوم، أنصار ثورة في الأمس؟

الواقع أن الأشهر الثلاثة السابقة للمجازر الطائفية لم تخلُ يوماً من اعتداءات وانتهاكات بحقّ السوريين العلويين، وصل بعضها (مجزرة فاحل في أواخر يناير/ كانون الثاني، ومجزرة أرزة في بداية فبراير/ شباط) إلى ما يشبه بروفات للمجازر التي نتكلّم عنها. طوال هذه الفترة، كان كثيرون يقلّلون من شأن تلك الانتهاكات، مطالبين بإعطاء السلطة الجديدة الوقت، مكرّرين عبارة "كنا نتوقّع مجازر فظيعة لكنّها لم تحصل"، سيراً على المنطق الذي يكرّس قبول الواقع بمقارنة السيئ بما هو أسوأ، وعلى اعتبار أنه لا حدود للسوء، فإن ما هو واقع، وفق هذا المنطق، ينبغي قبولُه دائماً، وأن النقد والاحتجاج ليس سوى تذمّر أو "نقّ". وهذا لا يعني أن أصحاب هذا المنطق (الفاسد سياسياً) لا يمكن أن يرفضوا الواقع، إنهم يرفضونه، ولكن حسب مبدأ كيفيٍّ لا علاقة له بقيم أو بمبادئ عامة، ولذلك تراهم يقبلون اليوم ما كانوا يرفضونه بالأمس. فكما يعرض هؤلاء جلداً سميكاً حيال مجازر اليوم، فيما كانوا يستفظعون مجازر الأمس، يستفظع أمثالُهم مجازر اليوم، فيما كانوا يعرضون جلداً سميكاً حيال مجازر الأمس. هذا من العيوب الكبيرة في ثقافتنا السياسية، العيوب التي تجعلنا عاجزين عن الخروج من دائرة التسلّط والمجازر.

قناعتنا أن الموقف غير الأخلاقي، الذي عرضه التبريريون المتهاونون مع الانتهاكات بحقّ المدنيين العلويين الأبرياء، التي كانت توصَف خلال الأشهر الثلاثة الماضية "حوادث فردية"، وليست نهجاً للسلطة الجديدة، والذين سعوا إلى تكذيبها وكتمها لصالح "بناء الدولة"، كما كرّر من يعتقدون أنفسهم حكماء وبعيدي نظر، كان من جملة الأسباب التي جعلت المجازر اللاحقة ممكنةً، وكان من جملة الأسباب التي تقود اليوم إلى بناء دولة فئوية شبيهة بسابقتها، أي تقود، في النهاية، إلى تقويض معنى الدولة.

الناس أنفسهم الذين كانوا يجتهدون للردّ على أكاذيب وروايات الأسد، تراهم يردّدون أكاذيب وروايات لا تقلّ سخفاً

وعلى سيرة الدولة، كثير من "حكماء" الأمس كانوا يبرّرون ويتهاونون مع جرائم النظام السابق بحقّ الخارجين عليه، من منطلق الحفاظ على الدولة أيضاً، في الحالتَين تبرّر الجرائم حبّاً بالدولة، ولكن أيّ دولةٍ تلك التي تقتل أو تتهاون في قتل محكوميها وإذلالهم. هل يرى هؤلاء أن مجتمعنا محكومٌ بالاختيار بين دولة تسلّطية عدائية تجاه محكوميها ودمار الدولة والفوضى؟... الواقع أن هؤلاء يندبون أنفسهم كي يكونوا جنوداً أو خدماً لأصحاب النفوذ والسلطة، ولا يخرُجون على السلطة (حين يخرجون) إلا لخدمة متنفّذين تسلّطيين جدد.

لا يتراكم في بلداننا إلا الدمار والموت. تذهب الجهود الفكرية المنيرة والسياسية الخيّرة هباءً، ولا تتراكم، ولا يجد أصحابها سوى العجز أمام زحف الهمجية الفظيع. لا تجد سورية، بعد كلّ شيء، ما يقف في وجه الحثالة التي تظهر في السطح وتمارس أبشع أنواع جرائم الإبادة الطائفية. هكذا تشهد الشوارع النكوص من الهتاف للحرّية إلى الهتاف لـ"إبادة العلوية"، هذا في بلد شهد ثورةَ "كرامة وحرّية"، ودفع ثمناً غالياً لأنه تهاون فيما مضى مع بناء دولة تقوم على التمييز والاحتكار والعنف. حتى يتساءل المرء، كيف كان هؤلاء، الذين تفوح من أفواههم رائحة الجثث اليوم، أنصار ثورة في الأمس؟

لا شيء كريماً يتراكم في هذه البلاد، التي تتوالى فيها النكبات، وتصبح النكبة السابقة منطلقاً للتالية وأساساً لتبريرها. الناس أنفسهم الذين ضحوا من أجل قيم وأفكار وطنية وعادلة، يهجرون هذه الأفكار، ويتلكّؤون في إدانة الجريمة التي كانوا ضحيةَ ما يشبهها بالأمس. الناس أنفسهم الذين كانوا يجتهدون للردّ على أكاذيب وروايات الأسد، تراهم يردّدون أكاذيب وروايات لا تقلّ سخفاً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows