
مهما كان الموقف والتوصيف من السلطة، التي جاءت في سورية إثر سقوط نظام الأسد، يبقى أيّ إعلان دستوري، يُسلق على عجل، في حقيقته، دستوراً جديداً، مهما قيل عن مرحليّته، وتمهيده لدستور سيأتي فيما بعد في سياق عملية انتقال ديمقراطي مفترضة. تتجاوز المسألة مجرّد وثيقة قانونية لتكون فعلاً سياسياً مهيمناً، يعيد إنتاج علاقات القوة تحت غطاء الشرعية الثورية، ولا شيء آخر، فلا يصبح الدستور مجرّد إطار تنظيمي، بل نصّاً سلطوياً يحاول إعادة تشكيل الخطاب السائد بطريقةٍ تمحو ذاكرة العنف الوليد، أو تعيد تأويلها لصالح طرفٍ منتصر. ولا تنبع الشرعية في هذه الحالة من التأييد الشعبي (الذي لا ينكره أحد)، بل من آليات الإكراه الرمزي والمادي. وبذلك، يُحوّل الدستور أداةً لإنتاج واقع جديد يخدم مصالح الفاعلين السياسيين، الذين يسيطرون على المجال العام أمنياً وشعبوياً، حتى لو تغيّرت واجهات السلطة، لتعود الدورة من جديد وكأنّ السوريين لم ينضجوا بعد بما فيه الكفاية كي يبدأوا عمليةَ بناءٍ على أساس مواطنة حيادية، ليس فيها صدىً أو نُدبة من ماضٍ قمعي.
تاريخياً، هناك أمثلة عديدة لدساتير جديدة فُرضت بعد مجازر أو انهيارات سياسية كبرى، من دون تحقيق عدالة انتقالية فعلية. ففي تشيلي، كان دستور 1980 استمراراً غير مرئي لحكم بينوشيه، رغم أنه صيغ من خصومه ليبدو "ديمقراطياً". وفي العراق بعد 2003، ورغم سقوط النظام السابق، لم يكن الدستور الجديد سوى إعادة توزيعٍ للسلطة ضمن هندسةٍ طائفيةٍ جديدة، من دون أن يتأسّس على مصالحة اجتماعية حقيقية. أمّا في جنوب أفريقيا، فإن نجاح دستور 1996 ارتبط بتوافر مسارٍ للعدالة الانتقالية، ما جعله استثناءً، بينما جاء الدستور في البوسنة نتيجة مفاوضات دولية فرضت توازناً هشّاً بين القوى المتصارعة من دون تفكيك البنية العنيفة للصراع.
ليست المسألة إذاً في "الوثيقة الدستورية" فقط، بل في علاقتها بالذاكرة الجمعية والعدالة والسلطة. في مجتمعات ما بعد الثورات، يكون الدستور قطيعةً جذريةً مع الماضي أو مجرّد إعادة إنتاج لعلاقات القوة ضمن بنية جديدة. والخطر هنا أن يصبح قبول هذا الدستور ضرباً من العنف الرمزي، فتُحيّد الرغبةُ الجماعيةُ نحو الديمقراطية الليبرالية، التي نادت بها الثورة في بداياتها، عبر ميكانيزماتٍ سياسيةٍ وإعلامية تحاول فرض "سردية رسمية" للثورة من أساسها (ومن ثمّ للعدالة والمصالحة) التي تطالب بها، حتى لو كانت خاليةً من المعنى الفعلي لإرادة البشر. في السياقات التي لم يتحقّق فيها تفكيكٌ فعليٌّ للبنية السلطوية الرمزية، يصبح الدستور الجديد امتداداً للقديم في جوهره، حتى لو اختلفت ألفاظه، وحتى لو تغيّرت أيديولوجية القائمين عليه، لأن المؤسّسات القائمة تعيد إنتاج منطق الهيمنة نفسه تحت غطاء ديمقراطي شكلي. لا تُبنى الشرعية هنا على الإجماع الفعلي، بل على القدرة على إعادة تشكيل المجال العام بطرقٍ تقمع الأصوات المعارضة، سواء عبر العنف المباشر أو الرمزي. وهكذا، تصبح الثقة في دستور جديد بعد مجازر شبه مستحيلة ما لم تكن هناك عملية عدالة انتقالية حقيقية، تعيد توزيع السلطة، والاعتراف بضحايا الماضي فاعلين في المستقبل، لا إحصائيات في خطاب السلطة.
الإعلان الدستوري جزء من عملية سياسية معقّدة تهدف إلى إعادة تشكيل السلطة ضمن سياقاتٍ جديدة
يمكن اعتبار الإعلان الدستوري السوري الجديد لحظةً فارقةً في تاريخ البلاد، إذ يُحدّد ملامح المرحلة الانتقالية بعد عقود من الحكم المركزي، لكنّه لا يمثل مجرّد إطار قانوني مؤقّت، بل هو جزء من عملية سياسية معقّدة تهدف إلى إعادة تشكيل السلطة ضمن سياقاتٍ جديدة. وبينما يتم تقديمه خطوةً نحو التحوّل الديمقراطي، تكشف بنوده إعادة إنتاج مركزية السلطة من خلال آليات قانونية حديثة تمنح الرئيس صلاحيات واسعة، تشمل تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب وتشكيل المحكمة الدستورية، مع ترك مسألة عزله لمجلسٍ يتأثّر تكوينُه بقراراته. يثير هذا الإطار القانوني إشكالاتٍ سياسية ودستورية، خصوصاً عند مقارنته بالنظم الرئاسية التي تعتمد على توازن السلطات، وضمانات تحدّ من تغوّل السلطة التنفيذية.
يبدو من قراءة أوليّة للإعلان الدستوري أنه لا يهدف إلى تنظيم المرحلة الانتقالية فقط، بل يسهم في إعادة تشكيل السلطة بآلياتٍ تتجاوز الخطابات التقليدية حول الفصل بين السلطات وضمان الحقوق والحرّيات. رغم تقديمه وثيقةً تمهّد للحكم الديمقراطي، فإنه يعيد ترسيخ بنية سلطوية مركزية ضمن مظلّة قانونية جديدة، فيمكن للنصوص الدستورية أن تكون أدواتٍ لإنتاج السلطة بدلاً من تقييدها، ما لم توجَد مؤسّساتٌ قادرةٌ على فرض التوازن الحقيقي بين السلطات. إحدى الإشكاليات الأساسية التي يكرسّها الإعلان تتمثّل في منح السلطة التنفيذية مكانةَ رأس الهرم السياسي من دون ضوابط مؤسّسية فعّالة، إذ يتمتّع الرئيس بقدرةٍ شبه مطلقةٍ على تعيين شخصيات رئيسة في القضاء والتشريع، ما يطرح تساؤلاتٍ حول استقلالية هذه المؤسّسات.
الثقة في دستور جديد بعد مجازر تُصبح شبه مستحيلة ما لم تكن هناك عملية عدالة انتقالية حقيقية
في النظم الديمقراطية، يُفترض أن تلعب السلطتان، التشريعية والقضائية، دوراً في ضبط أداء السلطة التنفيذية. وفي هذه الحالة، تبدو هذه المؤسّسات امتداداً للنفوذ الرئاسي، إذ تشكّل المحكمة الدستورية بقرار من الرئيس، ما يحوّلها أداةَ شرعنةٍ للسلطة، بدلاً من أن تكون جهةً مستقلةً للرقابة. ولا يقتصر تأثير الإعلان على تنظيم الحكم، بل يعيد إنتاج علاقات السلطة ضمن إطار قانوني جديد، ما يجعله أداةً لإعادة هندسة الطاعة السياسية. فمن خلال استخدام لغة الإصلاح والديمقراطية، تُمّرر هذه المرّة مركزية السلطة التنفيذية باعتبارها ضمانةً للاستقرار، وهي استراتيجية مألوفة في الأنظمة ما بعد الاستبدادية، فتُستخدم شعارات التغيير لتمديد الهيمنة السياسية. غياب الأصوات المُعارِضة من عملية صياغة الإعلان يعزّز المخاوف حول افتقاره إلى الشرعية التشاركية، إذ لا يمكن لأيّ عمليةٍ انتقاليةٍ أن تحقّق الاستقرار من دون تمثيلٍ فعليٍّ للفاعلين السياسيين كافّة.
تلعب السلطة القضائية دوراً أساسياً في أيّ نظام ديمقراطي ضامناً للحقوق، ومراقباً للسلطة التنفيذية، لكن الإعلان يعيد تعريف دور القضاء بطريقةٍ تجعله خاضعاً للسلطة التنفيذية، فحين تُعيّن المحكمة الدستورية بقرار رئاسي، مع منحها صلاحياتٍ يُفترض أن تكون مستقلّة، يصبح القضاء أداةَ شرعنةٍ بدلاً من سلطة رقابية حقيقية، ما يقيّد إمكانية الطعن في قرارات السلطة التنفيذية، ويعزّز منطق الهيمنة السياسية. من المشكلات الجدّية التي يثيرها هذا الإعلان الدستوري إمكانية تحوّل المرحلة الانتقالية وضعاً دائماً. إذ قد يؤدّي غياب آليات واضحة لإنهاء المرحلة الانتقالية إلى تمديد السلطة التنفيذية من دون أجل محدّد. كما أن مقارنة بسيطة لهذا الإعلان بالنظم الرئاسية الأخرى تظهر غياب التوازن المؤسّسي وآليات المساءلة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يتمتّع الرئيس بصلاحياتٍ واسعة، لكنّها مقيّدة برقابة الكونغرس والمحكمة العليا، فضلاً عن إمكانية عزله وفق إجراءات دستورية واضحة. أمّا في الحالة السورية، فإن الرئيس يمتلك صلاحياتٍ غير محدودة فعلياً، فلا يتمتّع البرلمان باستقلالية حقيقية، نظراً إلى قدرة الرئيس على تعيين ثلث أعضائه، كما أن المحكمة الدستورية لا تعمل جهةً رقابيةً مستقلّةً، بل أداةً تنفيذيةً ضمن المنظومة الحاكمة. ... يحمل الإعلان الدستوري الجديد ملامح تحوّل سياسي مهم، لكنّه، في الوقت نفسه، يثير مخاوف جدّية بشأن استمرارية مركزية السلطة، فالشرعية الدستورية لا تأتي من وجود نصوص قانونية فقط، بل ايضاً من تفاعلها مع الواقع السياسي والاجتماعي لضمان التوازن المؤسّسي والرقابة الفعّالة، وإلا لن يكون سوى وسيلة أخرى لإعادة إنتاج الطاعة السياسية، بدلاً من أن يكون خطوةً حقيقيةً نحو الديمقراطية.
تبنّي مقاربة تعترف بالتعددية، وتفكّك الخطابات الشمولية، السبيل الوحيد لعبور المرحلة الانتقالية نحو مستقبل أكثر استقراراً
في ظلّ التحولات السياسية التي شهدتها سورية أخيراًً، برزت تحدّياتٌ اجتماعيةٌ عميقةٌ رافقت الإعلان الدستوري الجديد، ما يعكس تعقيدات المرحلة الانتقالية وصعوباتها. الاعتداء على قوات الأمن وعمليات القتل والمجازر، التي شهدها الساحل السوري، خاصّة في اللاذقية وطرطوس، عكست توتّرات اجتماعية عميقة، وتصدّعاً واضحاً في النسيج الاجتماعي. لم تكن هذه المواجهات مجرّد صدامات عسكرية، بل كشفت هشاشة الهُويَّة الوطنية، التي لطالما قُمعت تحت مظلّة خطاب الوحدة الوطنية. يُبرز تفكّك السرديات الشمولية الحاجة إلى إعادة بناء هُويَّة وطنية تعترف (حقيقة لا نظرياً فقط) بالتعدّدية والاختلاف بعيداً من الإقصاء. من زاوية ثانية، يعكس عدم السيطرة الكاملة على كامل التراب السوري هشاشة السلطة المركزية وتعدّد مراكز النفوذ، إذ تتشكّل سلطات محلّية، وهُويَّات فرعية، تتحدّى مفهوم الدولة المركزية التقليدية. يفرض هذا الواقع تحدّيات أمام الإعلان الدستوري، الذي يُفترض أن يكون شاملاً لمكونات المجتمع السوري كافّة.
مع هذه التعقيدات، يظلّ نجاح الإعلان الدستوري مرهوناً بقدرته على التعامل مع التحدّيات الاجتماعية والسياسية الراهنة، فإذا لم تُعالج التصدّعات المجتمعية ولم تُبنَ أسسٌ لمشاركة سياسية حقيقية، فقد يظلّ هذا الإعلان مجرّد وثيقة نظرية غير قادرة على فرض واقع جديد. تبنّي مقاربة تعترف بالتعدّدية، وتفكّك الخطابات الشمولية البائدة، وتعيد بناء السلطة على أسس تشاركية، قد يكون السبيل الوحيد لعبور المرحلة الانتقالية نحو مستقبلٍ أكثر استقراراً وشمولاً للشعب السوري المكلوم، وللضحايا جميعهم، السابقين واللاحقين.
