
أزعجت بريدجيت جونز النسويات، وهي بطلة سلسلة أفلام تحمل اسمها وعادت إلى دور السينما أخيراً. علـى عكس المتوقّع منها، لا تبدو الشخصية اللندنية مزعوجةً من لصق بعضهم وصف الأنوثة السامّة بها، لهوسها بفقدان الوزن والعثور على رجل، فضلاً عن دفاعها عن رفيق دربها القديم دانيال كليفر (النجم هيو غرانت) في شخصية زير النساء التقليدية، التي خاضت حملة "مي تو" (أنا أيضاً) نضالاً ضدّها. إلا أن بريدجيت لا تأبه للانتقاد، ولا تريد أن تتغيّر رغم أنها تغيّرت بالضرورة، وتقدّمت في العمر عابرةً الإنتاجات السينمائية الأربعة واسعة الانتشار، التي تحمل اسمها. الأكثر أهمية أن برديجيت جونز ليست ضحيةً، ولا تريد أن تكون ضحية. إنها أيضاً ليست أيقونةً نسوية بالتأكيد، ولا تريد أن تكونها.
تماهت النجمة الأميركية ريني زيلويغر مع الشخصية الشعبية التي لعبتها منذ عام 2001 (تاريخ إصدار الفيلم الأوّل في السلسلة)، حتى بات بعض معجبيها يناديها باسم بريدجيت جونز عندما يلتقي بها في الشارع. وبريدجيت شابّة لندنية تبحث من دون كلل عن زوج أو رفيق درب تماثلاً مع الأنماط الاجتماعية، وهرباً من الوحدة التي تلاحقها منذ شبابها في حياتها الصاخبة باللقاءات والمرح. تقول النجمة إنها مغرمة بالشخصية وتأمل بأنها (مع تقدّمها في العمر) ستحافظ على قدرتها على المرح، ولن تتخلّى عن هشاشتها التي جعلت آلافاً من النساء العاديات يتماهين معها. إذ ليست بريدجيت مميّزةً في شيء، ليست فائقة الجمال ولا الذكاء، ويبدو نجاحها المهني منتجةً تلفزيونيةً مصادفة أكثر منه حصيلة مسيرة مهنية مضنية. مثل نساء عديداتٍ عاديات، من "مميزات" شخصية بريدجيت أن لديها والدةً تريد تزويجها بالقوة، رغم تبرّمها المتواصل من الرجال (من تريد زوجاً ولديها مهنة ناجحة مثلك؟ تقول الأم لابنتها في الحلقة الثالثة من السلسلة).
تشبهنا بريدجيت جميعاً لأنها بعيدة من الكمال أو المثالية، إلا أن قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على الأمل بأن الأشياء الجميلة لم تنته بعد
تشبهنا بريدجيت جميعاً لأنها بعيدة من الكمال أو المثالية، إلا أن قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على الأمل بأن الأشياء الجميلة لم تنته بعد، والتفاؤل المُضمَر بأن الحظّ سيسعفها لا محالة في المرّة المقبلة. تتلعثم غالباً وترتكب الهفوة إثر الأخرى، ويكاد قاموس معلوماتها السياسية يقتصر على جملةٍ أو جملتين عن الحرب في الشيشان، تردّدها في المناسبات الاجتماعية من دون معرفة بالأمر، ومن باب المجاملة فقط، أو الاستعراض الثقافي، إلا أن قدرتها على استدراك الهفوات بسذاجةٍ مضحكة غالباً ما ينتزع ابتسامةَ محاوريها، حتى في حضرة كبار المحامين ورجال السياسة في الحلقة الاجتماعية لزوجها (تتزوج أخيراً في الحلقة الثالثة من السلسلة)، محامي حقوق الإنسان البارز مارك دارسي (النجم كولن فيرث)، الذي سيقضي بانفجار لغم في السودان في الحلقة الرابعة والأخيرة. إلا أن بريدجيت، خلافاً لغالبيتنا، تمتلك قدرةً على تجاوز الأزمات المعيشية، وتقلّبات المهنة، من دون أيّ جهد، حتى ليخيّل للمشاهد أنها تعيش في عالم لا يمتّ بصلة لمدينة لندن الفائقة الغلاء، حيث سوق العمل تنافسي بامتياز. في حسابات ابنة الطبقة الوسطى الإنكليزية الميسورة، لا مكان لضيق المعيشة وتقلّبات سوق العمل.
لِمَ أزعجت بريدجيت جونز اللندنية العادية جدّاً النسويات؟ ... رافقت صدور الفيلم الجديد من السلسلة السينمائية مقالات في الصحف البريطانية، تعبّر فيه نساءٌ عن كراهيتهن الشخصية باعتبارها "سامّة"، وتعيد إنتاج القوالب الجندرية التي ناضلت الحركة النسوية لإلغائها. بلغ الأمر بإحدى هذه المقالات أن تطالب بالقضاء على الشخصية التي لم تعد، بحسب كاتبة المقالة، حقيقيةً في عالمنا. ردّت النجمة على الانتقادات مدافعةً بقوّةٍ عن الشخصية الأيقونة بالقول إن بريدجيت جونز "لطيفة ولا يوجد أيّ خطأ على الإطلاق معها أو مع تجاربها"، مشيدةً بقدرة الشخصية على التفاؤل، وبميلها إلى أن لا تأخذ نفسها على محمل الجدّ. إلا أن شخصية الفيلم ليست بالأساس نسوية، ولا تريد أن تكون، إلا إذا اعتبرنا موقفها من التأخّر في الزواج، وتعبيراتها عن عدم تعلّقها بالأطفال، ومعرفتها المحدودة جدّاً بالطبخ، مواقفَ "نسوية".
نسويات يرين في حيواتنا العادية فشلاً في تحقيق ذواتنا مناهِضةً للأنماط الاجتماعية
في الحلقة الرابعة والأخيرة من السلسلة، تدخل بريدجيت جونز (خرجت من عالم العزوبية لتدخله مجدّداً بعد وفاة زوجها)، روح العصر، عبر مصاحبة شابٍّ يصغرها سنّاً، التقت به عبر تطبيقات المواعدة التي باتت الطريقة الأساسية للقاء، إلا أنها لا تتوقّف عن الحلم باللقاءات الرومانسية لتجاوز وحدتها، كما عديدات من نساء عصر المواعدة. لِمَ إذاً وصفتها حملة الانتقادات بـ"الأنوثة السامّة"، وهي التي باتت أكثر عقلانية، وأقلّ رغبة في المغامرات، بعدما باتت أمّاً لطفلين؟ ... بات الغلو النسوي في مقارعة الأنماط الاجتماعية التقليدية للنساء مناسبةً لتنميط جديد عن ضرورة الخروج من التقليد، وكأن بريدجيت (ومثيلاتها) عاديّةً هو بالضرورة انتقاصٌ من حقوق النساء، ومسيرة تحرّرهن الشاقة. الخروج عن الأنماط بات نوعاً جديداً من القمع، هذه المرّة بيد النسويات أنفسهن، اللواتي يريْن في حيواتنا العادية جدّاً فشلاً ذريعاً في تحقيق ذواتنا باعتبارها بالضرورة مناهضةً للأنماط الاجتماعية.
عنونت صحيفة دايلي تلغراف، في مقالةٍ عن النسخة الجديدة والأخيرة للشخصية "بريدجيت جونز الكارثية والمحبطة ليست (الأيقونة النسوية) التي تستحقّها المرأة البريطانية"، في حين جاء في السطور الأولى لمقالة مماثلة نشرتها "الغارديان": "النجدة، عادت بريدجيت. إنها أرملة لكنّها تافهة واستهلاكية ومهووسة بنفسها أكثر من أيّ وقت. أنا لا أشتري هذا الخيال المناهض للنسوية". هل تنتظر النساء البريطانيات (وغيرهن) بالضرورة أيقونةً نسويةً ليشعرن بالانتصار؟ ... بريدجيت جونز، مثلنا، عادية جدّاً، ولعلّ قدرتها على تحمّل واقعها والتأقلم مع تغيراته ومتطلباته أفضل ما يمكن أن تحقّقه بريدجيت ومثيلاتها من النساء الملتصقات بواقعهن بعيداً من بهرجة الهوس النسوي بالأيقونات الدرامية.
