حين تصفعنا الخيبة
Arab
2 hours ago
share

في لحظة تجسّد فيها الألم والكبرياء معاً، وقفت أم سورية مسنّة بجانب جثتي ولديها، اللذين قتلا بدم بارد. لم تبكِ، لم تضعف، لم تطلب الرحمة. كان أمامها القتلة؛ رجال مسلحون، قساة، يظنون أنّ المشهد سيكسرها والسلاح سيزرع الخوف بجذورها، لكنها وقفت بثبات بعد أن ألقوا سبب ما حصل عليها وعلى أمثالها من أبناء منطقتها، فقالت بصوتٍ متهدج، صارم: "فشرت.. نحنا مش غدارين".

مشهد كهذا ليسَ مجرّد حادثة فردية، بل انعكاس لحالة أوسع من الخذلان والانهيار الإنساني، هو تأكيد لنبوءة ممدوح عدوان الذي كتب مراراً عن الخيبة عندما تأتي ممن يفترض أنّهم الأقرب إلينا، وكيف أنّ الحروب لا تقتل البشر فقط، بل تقتل القيم والأخلاق فيهم. 

الخذلان من الداخل.. عندما يصبح الوطن ساحة للوحشية  

ما جرى في الساحل السوري من مجازر، حرق للبيوت، ونهب للممتلكات ورمي الجثث في البحر، ليس مجرّد عنف عشوائي بل نموذج لما وصفه ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان"، حين حذّر من أنّ القسوة والوحشية ليست سوى نتيجة طبيعية لعالم يشرعن العنف تحت أيّ مسمّى.

عدوان لم يكن ينظر إلى الحرب فقط باعتبارها صراعاً سياسياً أو عسكرياً، بل كان يراها حالةً تُحوّل البشر إلى كائناتٍ أكثر وحشية، كتب يوماً: "الإنسان قادر على تبرير أي شيء، حتى القتل، إذا كان مقتنعاً بما يكفي". 

الحروب لا تقتل البشر فقط، بل تقتل القيم والأخلاق فيهم

وهنا، نجد أنّ القتلة في ذلك الفيديو، وربّما في آلاف الحوادث المشابهة، لديهم مبرّراتهم الخاصة، لديهم قناعاتهم التي تجعلهم يرون القتل مجرّد "تفصيل" في معركتهم! لكن ماذا عن الخيبة الكبرى؟ ماذا عن الشعور بأنّ الأرض التي كبرت عليها قد لفظتك، وأنّ من كنت تراهم جيراناً صاروا هم القتلة؟

"نحنا مش غدارين".. القوة في الامتناع عن التشبّه بالوحوش

كلمات الأم لم تكن مجرّد رد فعل لحظياً، بل كانت موقفاً أخلاقياً، كأنّها تقول للقاتل: "قد تسلب حياتهم، لكنك لن تسلب إنسانيتنا" هنا الفرق الجوهري بين الانتقام وبين الامتناع عن الانحدار إلى مستوى القتلة. 

ممدوح عدوان تحدّث عن هذا أيضاً في كتابه "دفاعاً عن الجنون"، حيث اعتبر أنّ الجنون الحقيقي هو في التسليم للقسوة، وأنّ المقاومة الحقيقية هي في البقاء إنساناً رغم كلّ شيء، ربّما كان سيكتب عن هذه الأم لو كان حياً، ربما كان سيرى في كلماتها رمزاً لما تبقى من كرامة في عالمٍ ينهار.  

هل كنا مستعدين لهذه الخيبة؟ 

الحروب تكشف المعادن الحقيقية للبشر، في مثل هذه اللحظات، يدرك المرء أنّ الخطر ليس فقط في الرصاص، بل في الشعور بأنّ الأرض التي نعيش عليها لم تعد تعرفنا، أو أننا لم نعد نعرفها.

الأرض التي نعيش عليها لم تعد تعرفنا، أو أننا لم نعد نعرفها

السؤال الآن ليس فقط عن القتلة، بل عن المجتمع كله؛ هل هذه الحرب عرّت حقيقتنا؟ هل نحن مستعدون للاعتراف بأنّنا كنا نعيش في وهمِ التضامن بينما الحقيقة كانت مختلفة؟

ماذا بعد؟  

لا يمكن لأحد أن يعيد أبناء تلك الأم، ولا يمكن لأيّ كلمة أن تخفّف وجعها، لكن موقفها يبقى درساً في الكرامة، ورسالة بأنّ الخذلان قد يكون واقعاً، لكنّه ليس مبرّراً للاستسلام. وقد كتب ممدوح عدوان يوماً: "لا أحد ينجو من الحرب، حتى الناجون خاسرون".

ربما نحن جميعاً خاسرون، لكن السؤال الحقيقي: ماذا سنفعل بهذه الخسارة؟  

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows