خلال تصفّح الواحد منّا منصّات التواصل الاجتماعي، يُصادف شهادات لمن كان ناشطاً في واحدة من الحركات الإسلامية يسجّل فيها تجربته وما مرّ معه، وهناك خيط رفيع مشترك مع جلّ الشهادات التي اطلعت عليها أو التي حدّثني فيها بعض الأصدقاء، إلى غياب "النقد" الموضوعي، وإن حضر هذا الصوت، فلا يكاد يصل إلى المعنيّ بها، خاصةً رأس الهرم، وإن وصل فتكون نتيجته عكسية، وسأحاول في هذا المقال الحديث عن حالة تغييب صوت النقد، واختفاء كلمة "لا" من معجم العديد من الجماعات الإسلاميّة.
وتستمرّ هذه الحالة على الرغم من وجود إرثٍ إسلاميّ كبير يحضّ على إبداء النصح والإرشاد، للحاكم ولكلّ مسؤول، في سياق بناء مجتمع مسلم يستطيع تقويم الاعوجاج، ويسدّ الخلل، ويُصلح أمر دنيا الناس ودينهم، وتُقدّم هذه النصوص والقصص من زمن النبوّة والخلافة الراشدة، وحتى المحطات التالية صورةً أشمل عن سقفٍ مرتفع للحرية في المجتمع الإسلامي حينئذٍ، مع التأكيد أنّ الحريات هذه بدأت بالضمور شيئاً فشيئاً، ولم تعد أبواب الحكام والسلاطين مفتوحة كما كانت في صدر الإسلام.
وبعيداً عن الاستقراء التاريخيّ لمصادرة جزء من حريات الناس في مواجهة المسؤولين، إلا أنّ هذه الحالة من "الحرية" بمفهومنا الحديث، تستوجب أن تكون موجودة في الحركات الإسلامية من باب الاتساق مع الأدبيات التي تحملها، وتقوم بترويجها، إذ تقدّم هذه الجماعات والتيارات نفسها باعتبارها "أمينة" على "المشروع الإسلامي"، وحاملة لواء تحقيق عودته الحضارية.
وعلى الرغم من هذه الشعارات البراقة، تفشل ضمن جسدها المباشر على تحويل التناصح العام على أقلّ تقدير إلى حالة مَعيشةٍ، وجزء طبيعيّ من الحراك الداخلي للتقييم والتقويم، فقول "لا" في الحركة الإسلامية ليس خروجاً عن الثوابت، أو تفريطاً في القرارات، أو شقاً للطاعة مهما كانت، بل ضرورة إنسانية، وحقّ مطلوب، وواجب في الكثير من الحالات.
ما أودّ إيضاحه هنا، أنّ جزءاً كبيراً من الحركات الإسلامية بنت تعاملها الداخلي مع الأطر الملتحقة بها على "مبدأ الطاعة"، وإن شهدت السنوات المتتالية محاولات لتحسين أثر هذه العبارة على أعضاء هذه الجماعات، وعلى الجمهور العام، فقد تحوّلت إلى عبارة "الطاعة المبصرة" أو "الطاعة على بصيرة"، وما يتصل بها من معانٍ، بل حفلت الكتب التأسيسية للكثير من الحركات الإسلامية على التركيز المتكرّر على مفهوم "الطاعة"، فلا يترقى المنتمي إلى هذه الجماعات "الحركية"، إلا عندما يحققون "كمال الطاعة"، في إشارةٍ إلى تسليمه الكامل بالنظم الداخلية وقرارات الجماعة، ورؤيتها وتوجّهاتها، وبطبيعة الحال إرادة المسؤولين والقيادات.
وقد مرّ معي أنّ واحدة من الحركات، درجت على تقديم "الطاعة" قبل أيّ أسئلة أخرى، وجعلته الركن الأساسي في نظامها، والحفاظ على وحدة الصف فيها قبل أيّ سؤال آخر، ولو كان استفهاماً بسيطاً على غرار كلمة "لماذا". وتحضرني هنا قصة أخبرني بها من كان متقلّداً مواقع متقدّمة في واحدة من الجماعات المشرقيّة، فقد روى لي أنّ أحد قيادات جماعته اعتكف مدّة من الزمن، على أثر مراجعة تمّت بسبب قرارات اتخذها، وأدّت إلى نتائج سلبية كثيرة، فكيف لهم أن يناقشوه فيها، فعلى أثر طول عهده بـ"نعم" المطلقة والطاعة بشقيها الأعمى والمبصر، من دون أي استفهامات ومراجعات، أصبحت "لا" صنواً للجحود، ورديفةً للخروج عن إجماع لم يُبنَ إلا في ظلّ هذه الازدواجية الغريبة، وفي هذه الحالات يلجأ هؤلاء إلى النصوص مرةً أخرى، ليؤكدوا الالتزام، ويحيدون عن نصوص أخرى تؤكّد أهمية النصح، وبيان المثالب، وتعامل من يتلقاها بسعة الصدر، والقبول، وخفض الجناح، وفي ميراثنا قصص كثيرة في هذا الباب.
قول "لا" في الحركة الإسلامية ليس خروجًا عن الثوابت، أو تفريطًا في القرارات، أو شقًا للطاعة مهما كانت، بل ضرورة إنسانية، وحقّ مطلوب، وواجب في الكثير من الحالات
الإشكالية الكبرى أنّ الكثير من التيارات الإسلامية والدعوية لا تبني داخل جسدها التنظيمي بنية واضحة لإيصال الأصوات الناقدة والناصحة، والنقد ها هنا لا يحمل إلا معانيه الإيجابيّة، حتى إن الكثير من هذه التيارات لا تتبنى وسائل شورية في اختيار القادة والمسؤولين إلا بعد سنوات طويلة، من العمل على أرض الواقع، أو أنّ أنظمتها الداخلية تتضمّن بنوداً تُعطي المسؤول أو الرئيس ما يُعدّ "سلطة مطلقة"، لا ينظّم بيئة للمحاسبة والتقويم، وهي سلطات تفتح المجال أمام المزيد من السلطة التي تترنّح ما بين "الأبوة" والسلطة الدينيّة، وما أوردناه من الطاعة المطلقة والإذعان المتكرّر.
حتى تلك الحركات التي نجت من التفرّد المطلق، واستطاعت بناء قراراتها على حالة من التفاعل الشوري، ينقسم فيها التعامل مع "الشورى" بالتعبير الإسلاميّ، إلى قسمين؛ الأول الذي يراها مُعلمة وليست مُلزمة، ما يعني أنّ القائد قادرٌ على تبني ما يراه مناسبًا من توجّهات وآراء، ولو خالفت مطلق رأي جماعته، ويكون اجتماعه مع الأطر القياديّة التي تليه، من باب الاستماع إلى مزيد من الآراء فقط. أما القسم الثاني فهو الذي يُعدّ الشورى مُلزمة، ويعتمد التصويت العددي، مع تفصيلات تعود إلى النظم الداخلية في آليات هذا التصويت وطريقته، وهو أسلوبٌ عام يجعل الكفة تغلب أحيانًا على فوارق ضئيلة.
ركّزت الكتب التأسيسية للكثير من الحركات الإسلامية على مفهوم "الطاعة" بشكل متكرّر
وفي عودة إلى لبّ الموضوع، وهو قول "لا" البناءة، ومحاولة رفض إجراءات وقرارات يرى فيها جزءٌ من أبناء الجماعة الإسلامية أنها خاطئة أو متسرّعة أو لا تناسب المرحلة، ولكن مشكلة أخرى تظهر حينها، فبناء على البنية التنظيمية للكثير من الحركات الإسلامية، تغيب الآلية الواضحة للمناصحة والنقد، وإيصال الصوت المختلف، وتتحوّل هذه الأصوات بفعل الأمر الواقع، والممارسة العملية إلى صرخة في فلاة، لكونها محصورة في الدوائر الصغرى، ومع استمرار سلوك تهميش هذه الأصوات، وتحجيم فعاليتهم لأنهم أصوات "مشاغبة"، سيدفع هذه الكتلة التي ترفع راية النصح إلى اتجاهات عدّة، سأركز على اتجاهين، وهما:
الأوّل، ما يظهر في الحركات الإسلامية الكبرى والممتدّة، إذ تظهر تياراتٌ ضمن الحركة الواحدة، فعلى أثر خيارات لها علاقة بالسياسة والدخول في معتركات الحكم، إذ تتمظهر بالمزيد من التشتّت على وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا، ويصبح الأفراد على غرار المثل الشائع "كلٌ يغني على ليلاه"، وينقسمون بين رافضٍ ومبرّرٍ ومبارك مؤيّد، في مشهدية تعكس الصحة التي تتمتّع بها الحركة من جهة، وأنّ المنضمّين إليها لم يغيبوا تماماً عن آثار "صناعة القرار"، ولكنه أيضاً بوح يستبطن رفضاً أو على الأقل غياباً عن المشاركة في صناعته، وعدم قدرة الأفراد على الاعتراض وإبداء الرأي، خاصة عند المحطات المفصلية.
أما الاتجاه الثاني، فهو الخروج من الحركة الأم، على شكل خروجٍ فردي، أو عبر مجموعاتٍ كبيرة متتالية، إمّا لأنّ الناصح المُبادر تبرّم من ضيق المساحة التي تُمنح إليه في صفوف هذا التيار أو ذاك، وهي مساحة نادرة الوجود بطبيعة الحال، أو أنّ محاولاتهم للإصلاح والتغيير، والتي بكلّ أسف تندرج في خانة إبداء الرأي فقط، ستنتهي على توقّع واضح، ويصبح لسان الحال "دع ما لقيصر لقيصر"، ويتحوّل صاحب الرأي ومن يحمل همًّا في الإصلاح إلى عنصر بارد يريد لنفسه البقاء على الهامش، تجنبًا لصراعاتٍ هو بغنًى عنها.
النقد والصدح بالحق، وإيصال الاعتراض، هي أمور واجبة، قد أوجبها علينا الشرع الحنيف قبل الحركة والجماعة
ختاماً، النقد والصدع بالحق، وإيصال الاعتراض، هي أمور واجبة، قد أوجبها علينا الشرع الحنيف قبل الحركة والجماعة، والقيام بها لا يستوجب إذناً من أحد، ولكن العبرة بالممارسة وفتح القنوات، وليس بالكلام المجرّد فقط، بل أرى أنها ركنٌ بالغ الأهمية يجب أن توضع قواعده وترسى نظمه، خاصة مع التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وموجة التغييرات المستمرّة، فلم يعد الرأي حكرًا على بيئة ما، ولم تعد الجماعات قادرة على مواكبة كلّ تلك التطورات، كما انفتح الأفق أمام حالة إسلامية جديدة، لم تعد الجماعات هي ركيزتها، بل تخترق الكيانات لتصب في خانة الأفكار، وتتنوّع ضمنها أدوات التأثير والبناء، وهو ما سنشهد تزايده في السنوات القادمة.
فهل تستعيد الحركات الإسلامية فعاليتها، وتعيد ترميم الترهل الكبير الذي أصابها في العقدين الماضيين، أم أنها ستنتهي في مقابل صعود قوى إسلاميّة أخرى؟