مدة صلاحيتي
Arab
3 hours ago
share

فعلاً. لو يستطيع الإنسان أن يعرف، ولو على وجه التقريب، ميعاد موته. كم كانت الحياة لتكون أسهل. والأفضل؟ أن يعرف ذلك الميقات بالتمام، وعلى وجه الدقة. فكّروا معي، كم سيكون الأمر مريحاً؟ 

يعني؟ خوف أقل. ندم أقل. تنظيم أكثر. لا وقت يُهدر بالتفاهات. حسب الرغبة، ولكن عن معرفة، عن اقتناع. ضمير نظيف، لأننا نعرف ما الذي نفعله، ضمير مرتاح من كلمة "لو". 

لا عُقد ذنب. ربما عواطف، انفعالات، حماس وتوتّر. لكن، ما بها المهدئات؟ في كلّ الأحوال نبتلع منها أطناناً. لا في منطقتنا فحسب، بل في كلّ مكان من هذا الكوكب التعس، لنستطيع أن ننسى أحداث أيّامنا التراجيدية، الجماعية منها والفردية، لمجرّد أن نجرّ أقدامنا، أرواحنا المتعبة، حتى الغد. يا سلام. ستكون الحياة معلومة الطول، ومع المهدئات من دون كوابيس. يوماً بيوم. مرتاحو البال إلى أننا غداً، على الأقل غداً، لن نموت. 

معنا كلّ وقتنا المتبقي، المحسوب بدقة. هكذا، ينظّم الإنسان نفسه: مثلاً؟ يتوقف عن العمل في السنوات الأخيرة ما قبل وفاته. إن كان قد جمع القليل من المال؟ ينفقه على نفسه ومن يريد وما يريد من دون خوف من "المجهول" ومفاجآت الشيخوخة إن طال العمر أكثر مما ينبغي، أو الموت إن أتى باكراً. المجهول، بعبع الإنسانية. محرّك الكون والبشر.

المجهول، بعبع الإنسانية. محرّك الكون والبشر

تطلق الفكرة العنان لمخيّلتي. سنرتّب آخرتنا. أو الأصح أيامنا الأخيرة. لدينا كلّ الوقت لنفكّر بما فعلناه وما علينا أن نفعله. إن كنت قد أجلت كتابة رواية مثلاً، سوف تقضي وقتك بالعمل عليها. أو تقرّر، عكس ذلك، أن تحجم من دون ندم، تختار أن تستمتع بالسفر واللهو عوضاً عن ذلك الجد الذي أجلته، كما كنت تفعل، إلى الغد الآتي، لا شك، ولا أعرف من أين كانت تأتي هذه الثقة بوصوله! 

مضحكون نحن. ننسى أننا سنموت، حتماً. وحين يدهمنا الموت، وهو في كلّ مرّة "يدهمنا" كونه من غير موعد، موت الأحبّة أو الأقارب، نفاجأ به كما لو كان حدثاً خارجاً عن المألوف، المتوقّع والمحتوم. 

بالطبع معلومة كهذه سوف تحدث انقلاباً في حياتنا وأنماطها ونظامها الذي نعرفه اليوم، سنشهد اضطرابات من كلّ الأنواع، إن كانت سياسية أو عسكرية أو اجتماعية بسبب معرفة كلّ إنسان لتوقيت أجله. 

لا شك سيبقى هناك الخوف من المرض، العجز بالشيخوخة، الإعاقة، الوحدة... لن تصبح حياتنا مثالية، أو ربما لا.. لا أعرف. بحاجة للوقت كي أعمل فكري، وأستحث مخيّلتي لتصوّر ما قد يحدث فعلاً. فالاحتمالات هائلة، لا بل إنها لانهائية كما حين تتغيّر الخوارزميات، أو يحصل تغيّر جيني ولو طفيف، كما حينما ولدت البشرية من مجرّد ميكروب.

سوف تكون هناك وزارات للتخطيط السكاني بناء على معلومات دقيقة، داتا مواعيد الموت. محسوبة بدقة كما في مواعيد الإقلاع والهبوط في المطارات. حساب للقوى العاملة، كمية الإنتاج. سوف يساعد ذلك أيضاً على حساب ميزانيات الدول بناء على معطيات دقيقة عن الصالحين للعمل، أيّ هؤلاء الذين لن يموتوا باكراً، ومن اقترب موعد موته؟ أو كانت مدّة صلاحيته قصيرة؟ لن يستطيع شراء تذكرة طائرة مثلاً، أو أن يقبل في عمل ثابت. هؤلاء ربما سوف يكونون من أرباب العمل الحر، أو قد يفرزوا للأعمال المؤقتة القصيرة الأجل مثلهم. سوف تفلس شركات التأمين على الحياة، لا معنى عندها لوجودها. ربما لن تكون هناك بطالة، بل ترشيد لها بحسب الصلاحية الحياتية، وميزانيات الصحة وتعويض المرض، وضمان الشيخوخة لطوال العمر، سيكون دقيقاً، حسب عدد المعمرين أو الصالحين للعيش مديداً.

يكفي ارتجاف بسيط في جوف الأرض، لتنهدم مدن وتغور محيطات وترتفع الجزر جبالاً وتندثر حضارات

سوف لن يشغر منصب بالموت المفاجئ. الخليفة حاضر وعليه أن يكون طويل العمر. كلّه محسوب. سيزيد ذلك من الإنتاجية ربما، أو سوف يساهم في تمتين الروابط العائلية كون موعد الفراق معروفاً. هل سيكون ذلك مأساوياً؟ لا أعرف. لكن ربما سيؤثر على نسب الزواج والديموغرافيا. وكذلك على حياة الأطفال. سيفرزون ربما بين قصار وطوال العمر، كيلا يؤثر رحيل بعضهم على بعضهم الآخر. وسيُضاف سؤال إلى الأسئلة التي سينظر فيها الناس قبل قرار الزواج والإنجاب: متى ستموت؟ هل من المفيد أن ننجب إن كنّا قصار العمر؟ هل من المنطقي أصلا أن نتزوّج؟ أو ربما: يااااه سوف تعيش كثيراً وأنا سأموت قبلك. لن يكون زواجنا موفقاً، فلننفصل. أو "حتى لو كنا سنعيش يومين معاً، أحبّك"، هكذا سيقولون في المسلسلات المصرية في رمضان.

كم سيتغيّر العالم بهذه المعلومة الوحيدة. احتمالات لا تنتهي. أصلاً من قال عندها إنّ هذا النظام، أقصد هذا الذي نعيشه، سيكون هو القائم؟ فهذا الاختلاف الوحيد لن يكون وحيداً. فالكون سلسلة مترابطة بالمادة والروح، تماماً كجسد الإنسان. يكفي ارتفاع درجة واحدة، مجرّد واحدة على حرارة الجسم لتصيبه بالمرض والحمى، بالتوعّك والاستياء.

تكفي نصف درجة زيادة على حرارة نواة الأرض، لتطوف البحار، وتذوب الثلوج، وتتدفق السيول وتثور البراكين. يكفي ارتجاف بسيط في قلبها، لتنهدم مدن وتغور محيطات وترتفع الجزر جبالاً وتندثر حضارات. 

هذا الكون هش. كم هو هش! هل سيكون أكثر هشاشة أو أقل إن علمنا ميعاد موتنا؟ تاريخ انتهاء صلاحيتنا؟

ليتنا نأتي إلى الحياة وقد كُتِب على قفانا، تماماً حيث يضربوننا لنصرخ صرختنا الأولى، مدّة صلاحيتنا. مثلاً: ضحى شمس: الرابع من أيار في العام ٢٠٢٥.

باكر قليلاً؟ لا بأس. ولو أني أتمنى، نظراً لما نعيشه من توحّش، لو كان أبكر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows