
لم تكن الحرب الإسرائيلية الإيرانية مجرّد جولة جديدة في صراع إقليمي طويل الأمد، بل لحظة مفصلية فرَضت على الدول المحيطة، وفي مقدّمتها الأردن، مراجعة جادّة لمفاهيم الأمن القومي والمصالح العليا، ودفعت النخبة السياسية الأردنية إلى إعادة فتح ملف العلاقة مع الضفة الغربية، بما في ذلك حدود الدور الممكن والمشروع والضروري، ومتى يكون التراجع عنه مخاطرة وجودية لا مجرّد خيار استراتيجي.
في خضمّ هذا الجدل، يبرز اتّجاه أردني يدعو إلى التركيز على "الداخل أولاً"، والابتعاد عن الانخراط المباشر أو غير المباشر في التطوّرات المتسارعة في الضفة الغربية. ويستند هذا التوجّه إلى قناعة مفادها بأنّ تكلفة الاشتباك الإقليمي، بخاصة مع إسرائيل، باتت عالية جداً في ظل اختلال موازين القوى، وضعف الدعم العربي، والاصطفافات الجديدة التي لا تصبّ بالضرورة في مصلحة الموقف الأردني التقليدي تجاه القضية الفلسطينية. يفضّل هذا الاتجاه الانكفاء نحو الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وتجنّب الانجراف إلى صراعات لا يمكن التحكّم بمآلاتها.
هذه المقاربة، وإن بدت عقلانية ومحافظة في ظاهرها، إلّا أنّها تطرح أسئلة عميقة حول ما إذا كانت بالفعل ممكنةً، أو حتّى مجديةً في السياق التاريخي والجغرافي والسياسي للأردن، فهل يستطيع الأردن أن "يعزل" نفسه فعلاً عن الضفة الغربية؟ وهل يمكن أن يُعاد تعريف المصالح الوطنية الأردنية العليا بمعزل عن هذه الأرض التي ترتبط بها المملكة، ليس عبر التاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً عبر تشابك ديمغرافي، وأمني، واستراتيجي، وهوياتي معقّد؟
واقع الحال أنّ الضفة الغربية لم تكن، في أيّ يوم، مجرّد ملف خارجي بالنسبة للأردن. وحتّى بعد فكّ الارتباط القانوني والإداري عام 1988، بقيت القضية الفلسطينية حاضرة في صلب الهوية الوطنية والسياسة الداخلية والخارجية على حد سواء. لا بل إنّ "الضفة"، جغرافيّةً وشعباً ومصيراً، هي في قلب معادلة الأمن القومي الأردني، إذ يشكّل استقرارُها (أو اضطرابُها) عاملاً حاسماً في استقرار المملكة. وهذا ما تعيه المؤسّسة الأمنية والسياسية جيّداً، بخاصة في لحظات التوتر أو الانفجار، كما حدث في انتفاضة الأقصى، أو خلال الحرب الجارية على غزّة، وما تلاها من تصعيد في الضفة، وعودة "الخيار الأردني" إلى بعض الخطابات الإسرائيلية المتطرّفة.
الأخطر أنّ الانكفاء عن الضفة لا يعني تحييد التهديد، بل قد يكون دعوة غير مباشرة لتمدّده؛ إذ يعزّز الفراغُ السياسي والأمني، الناتج عن غياب أفق للحل السياسي، وتصاعد الاستيطان، وتآكل السلطة الفلسطينية، من حضور قوى متطرّفة، لا تعترف أصلاً بوجود الأردن، ناهيك عن احترام أمنه وحدوده. في مثل هذا السياق، يصبح الانسحاب الأردني، حتّى الرمزي، من الضفة، تضحية مبكّرة بواحدةٍ من ركائز الاستقرار الاستراتيجي.
هنا تبرز أهمية إعادة تعريف الدور الإقليمي الأردني، بوصفه دوراً استراتيجياً قائماً على امتلاك أدوات التأثير في المشهد الفلسطيني، وخصوصاً في ظل الانهيارات المتتالية لمقوّمات الحلول السياسية، فالأردن، تاريخيّاً وجغرافيّاً وسياسيّاً، يمتلك من القدرة على التأثير في النخب الفلسطينية، والشارع، والبنية الاجتماعية ما لا تمتلكه أيّ دولة عربية أخرى. ومن هنا، لا يخدم تراجع هذا الدور حتّى المصالح الوطنية الأردنية نفسها، بل يضعف من أدواتها وقدرتها على التعامل مع التهديدات المتعاظمة.
لا يجري الحفاظ على الأمن القومي الأردني عبر الانعزال، بل عبر صياغة استراتيجية إقليمية ذكية، توازِنُ بين الاستقلالية السياسية والانخراط الفاعل، وبين التهدئة الدبلوماسية والحزم الاستراتيجي، وتراهن على عناصر القوة الناعمة الصلبة التي يملكها الأردن: الشرعية السياسية، والمصداقية الإقليمية، والعمق الشعبي الفلسطيني، والمرونة الدبلوماسية، والوصاية الدينية.
وفي نهاية المطاف، ليست الضفة الغربية "قضية" فحسب بالنسبة للأردن، بل هي "امتداد"، وربما "مرآة" لما يمكن أن يحدث في عمّان إذا ما تدهورت الأوضاع هناك. لهذا؛ السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس: هل يمكن للأردن أن يعزل نفسه عن الضفة؟ بل: ما هو الثمن الحقيقي لمثل هذا العزل؟ وهل تملك الدولة ترف المقامرة بأمنها الاستراتيجي، وهويتها السياسية، وشرعيّتها الرمزية لصالح استقرار مؤقّت، وهشّ، لا يمكن أن يصمد أمام أول هزّة قادمة من الغرب؟

Related News


