
رغم انتهاء المهلة المحددة له، أمس السبت، من دون تمديد، لم يصدر تقرير لجنة تقصي الحقائق في أحداث العنف الطائفي في مدن وأرياف الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي، والتي خلفت نحو 500 قتيل من عناصر الأمن العام ونحو 1500 مدني من أسر سورية تنتسب إلى الطائفة العلوية، تاركاً فراغاً إعلامياً وقضائياً يزيد من شكوك الشارع حول جدية الوعود الرسمية بمحاسبة المسؤولين عن تلك الأحداث، وقد ذكرت تقارير أن فلولا من النظام السابق ارتكبوا عمليات القتل في عناصر قوى الأمن التابعة للدولة، وأن عناصر في تنظيمات جهادية منضوية في وزارة الدفاع ارتكبوا جرائم القتل في الأسر العلوية. ويعيد التأخير الذي دخل يومه الثالث تسليط الضوء على علاقة الدولة السورية الجديدة بالعدالة، ويطرح أسئلة محرجة بشأن قدرة المؤسسات الرسمية على الوفاء بتعهداتها ضمن أطر زمنية معلنة، لا سيما في القضايا الحساسة التي تحمل أبعاداً اجتماعية وسياسية ملتهبة. في وقت يُفترض أن تُمثل اللجنة صوتاً ضامناً للشفافية، تبدو الصورة ضبابية، في غياب أي توضيح رسمي.
وفي موازاة هذا الغياب، بدأت ترتفع الأصوات الحقوقية والدولية للمطالبة بكشف الحقائق بشكل علني وشفاف، حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية أن للضحايا والناجين الحق الكامل في معرفة ما جرى ومن المسؤول، وطالبت في دعوة وجهتها نائبة المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، كريستين بيكيرلي، إلى الرئيس السوري أحمد الشرع بنشر تقرير اللجنة التي كان قد شكلها في 9 مارس/ آذار الماضي، كاملاً، وأن يضمن تقديم كل المسؤولين عن ارتكاب الجرائم التي استهدفت مدنيين سوريين من الطائفة العلوية إلى العدالة والمحاسبة، وقالت إن التحقيق يجب أن يكون مستقلاً ومحايداً لضمان العدالة.
وعبرت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" عن خشيتها من تحوّل اللجنة إلى أداة تجميل سياسي، بعد أن وثّقت في تقريرها المعنون "ما بعد النظام.. ما قبل الدولة" انتهاكات واسعة النطاق، شملت مقتل أكثر من ألف مدني على يد فصائل مختلفة ومجموعات محلية، وسط غياب شبه تام لآليات المحاسبة. ورأت أن تشكيل اللجنة جاء في سياق انتقالي هش لا يوفر الضمانات الكافية لتحقيق العدالة، مشيرة إلى غياب المحققين المستقلين من أبناء المناطق المتضررة، وإلى أن التكليف الرسمي لم يتضمن نصاً قانونياً يُلزم اللجنة بنشر نتائج عملها، ما يفتح الباب أمام استخدامها لأغراض سياسية داخلية، بدل أن تكون خطوة فعلية نحو المساءلة والإنصاف.
وفي محاولة لتقصّي أسباب التأخير، تواصل "العربي الجديد" مع أحد أعضاء لجنة التحقيق إلا أنه لم يرد، فيما اكتفت وزارة الإعلام بالقول إن اللجنة دخلت مرحلة "صمت إعلامي" إلى حين الانتهاء من إعداد التقرير، والذي قد يُنشر خلال الأيام المقبلة. وشدّد رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على ضرورة نشر تقرير اللجنة للعلن وتعميمه على وسائل الإعلام، بالتزامن مع مؤتمر صحافي يُعرض فيه ملخص للمخرجات، مع إتاحة المجال لتفاعل الصحافيين وطرح أسئلتهم. ويعتبر عبد الغني أن هذه اللحظة هي الوقت المناسب للمناشدة، على عكس المؤتمرات السابقة التي رافقت سير التحقيق، والتي يراها غير صحيحة، لأنها أُقيمت فيما لا تزال أعمال اللجنة جارية، ما شكّل خطراً على الجهود وحتى على اللجنة نفسها، معتبراً أن عدم نشر التقرير يرسل رسالة سلبية إلى الضحايا من كل الأطراف، وليس فقط من الطرف المرتكب للمجازر في الساحل، بل أيضاً للضحايا المدنيين من قوات الأمن، ما يجعل غياب التقرير غير منصف للجميع. ويؤكد أن النشر هو الاعتراف الحقيقي، لا مجرد تشكيل اللجنة، إذ يمثّل الخطوة الأولى نحو المحاسبة، مشدّداً على أن التحقيقات لم تُجرَ للأرشفة، بل لتُبنى عليها إجراءات فعلية تضمن المساءلة.
تأخر التقرير يقوّض شرعية السلطة
وقال الباحث والمهتم بقضايا حقوق الإنسان مالك الحافظ، لـ"العربي الجديد"، إن تأخّر صدور نتائج اللجنة، رغم انقضاء المهلة غير القابلة للتجديد، يُشير بوضوح إلى غياب الإرادة السياسية الجادة في كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، أو إلى عجز مؤسسي بنيوي داخل بنية السلطة الانتقالية، "وفي الحالين نحن أمام مؤشّر خطير يُقوّض الشرعية الأخلاقية للسلطة الحالية". ويلفت الحافظ إلى أن التأخير قد يكون إجرائياً أو تقنياً، لكنه يحمل دلالة واضحة على تسييس العدالة، ويعكس احتمال أن تكون اللجنة قد وُلدت لأغراض التهدئة، وهو ما يبرّر غياب أي "مُسوّغ شكلي" لتأجيل نشر التقرير. ويحذّر من أن الصمت الرسمي لا يُجسّد فقط خللاً إجرائياً، بل يُهيّئ بيئة خصبة لانتهاكات مستقبلية دون رادع. إذ حين لا تُنشر نتائج التحقيق، ولا تُحاسَب قيادات أو مجموعات، ولا يُصدر أي تصريح حكومي يخاطب أهالي الضحايا أو الرأي العام، فإن الرسالة الضمنية التي تصل إلى المجتمع أن مرتكبي المجازر بمنأى عن المحاسبة، وأن الدولة الجديدة قد تفتقر للجرأة أو الإرادة في مواجهة شبكاتها العسكرية - الأمنية.
ويضيف الحافظ أن تأخّر اللجنة يُعد دليلاً صارخاً على هشاشة مسار العدالة الانتقالية، ويؤشّر إلى أنه لا يزال مُعلّقاً على ميزان القوة والمصالح، لا على أساس القيم والمبادئ القانونية. ويتساءل هنا ما إذا كانت العدالة فعلاً تمثّل أولوية لدى السلطة الانتقالية، أم أنها تُستدعى فقط حين تخدم التوازنات السياسية. وينبّه الحافظ إلى ضرورة ألا تساهم السلطة في تآكل الثقة العامة بمؤسسات العدالة، لأن ما يحصل حالياً قد يُنذر بتحوّل العدالة الانتقالية إلى "مسرحية شكلانية"، بدل أن تكون أداة فعلية لترميم العقد الاجتماعي وشفاء الذاكرة الجماعية.
الأزمة تتجاوز الساحل السوري
في امتداد لهذه المخاوف، قال الكاتب عمار ديوب لـ"العربي الجديد"، إن غياب المحاسبة في حالات الانتهاك والقتل، خاصة حين ترتبط الأحداث بطابع طائفي، كما في الساحل السوري، يجعل فقدان الثقة أمراً واسعاً وعميقاً، إذ استُهدفت طائفة بأكملها. ويرى أن على الإدارة تقديم تفسير واضح للتأخير، وهو أمر طبيعي يمكن أن يكون مرتبطاً بدقة التحقيق أو عدم اكتماله، إلا أن تجاهل ذلك يُساهم في اتساع الفجوة بين السلطة والناس، ولا يقتصر الأمر على الساحل، بل يشمل السوريين بشكل عام، حيث يتزايد التذمر، وينتظر الجميع صدور التقرير، لا سيما في مناطق شهدت انتهاكات مشابهة مثل السويداء، وصحنايا، وجرمانا.
ويرى ديوب أن أزمة الثقة لا تقتصر على غياب التقرير، بل تشمل أيضاً ما ورد في تقارير دولية حديثة، منها تقرير عن وكالة "رويترز" يدين 12 فصيلاً عسكرياً على صلة بشخصية نافذة تُدعى حسين عبد الغني، التي برّرت المجازر. ويضيف أن تقريراً آخر صادر عن مركز الإعلام وحرية التعبير ناقش القضية نفسها، ما يجعل نشر نتائج عمل لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الرئيس أحمد الشرع ضرورة لا تحتمل المزيد من التأجيل.

Related News


