
كحدّادٍ ماهرٍ، طوّعت فرقة "بلاك ساباث" (Black Sabbath) البريطانية موسيقى روك آند رول بين عقدَي الستينيات والسبعينيات، وصقلتها مُبدعةً النماذجَ الأولى الأكثرَ تبلوراً لما يُعرف بـHeavy Metal، والترجمة الحرفية هي "المعدن الثقيل"، وهو جنسٌ موسيقيٌّ صاخبٌ يُؤدّى على غيتاراتٍ كهربائيةٍ شُوِّشت أصوات أوتارِها، يسندها قرعُ طبولٍ عنيفٍ، تُصاحب غناءً خشناً حادَّ النبرةِ ومرتفعَ الشدةِ.
تقديراً لدورها الريادي، اجتمعت في 5 يوليو/تموز الحالي نخبةٌ من ألمع نجوم الهيفي ميتال في مدينة بيرمينغهام، مسقطِ رأس الفرقة، لتشاركها عرضَها الوداعيَّ الأخير، بعد مسيرةٍ موسيقيةٍ شارفت على نصفِ قرن.
أمام مرأى ومسمعِ أربعين ألفاً من هواةِ الضجيج ومُدمني مكبّراتِ الصوتِ العملاقة، اعتلت المنصّة فرق، لها أيضاً تاريخها ومنزلتها مثل Metallica، إذ قدّمت نسختَها من أغنية بلاك ساباث Hole in the Sky، من ألبوم Sabotage الصادر سنة 1975، وفرقة Guns N’ Roses التي أعادت غناء Never Say Die، من ألبومٍ يحمل ذات الاسم يعود لعام 1978، بصوتِ قائدها آكسل روز (63 عاماً).
المفارقة التاريخية هي أن واحداً من أعنف الأجناس الموسيقية وأكثرها تجييشاً للعواطف الأشد غريزية وبدائية، قد خرج من رحم السلم العالمي الذي ساد الغرب بشرقه الأوروبي وغربه الأميركي خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وذلك بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية بحصيلة موت ودمار هائلة، سبقتها الحرب الأولى التي لم تكن أقلّ فظاعة، سوى لتأخر البشرية النسبي في ابتكار وسائل القتل والتدمير.
لذا؛ فإنّ الخطاب الذي تبنّته فرقة "بلاك ساباث" متناً لأغانيها ظلّ في معظمه داعياً إلى السلمية ومناهضة العنف والحرب، أي ما يُعرف بـPacifism، وهي حركة سياسية مجتمعية احتجاجية نادت إلى حل النزاعات دبلوماسياً، وعدم التدخل العسكري، إضافة إلى الحد من انتشار الأسلحة والاتّجار بها، وعلى رأسها تلك التي تُحدث دماراً شاملاً، الكيميائية والبيولوجية والنووية.
يمكن تفسير التناقض بين الشكل العنفي لموسيقى "هيفي ميتال" ومضمونها اللاعنفي، بأن الحركة الباسيفيّة في أوروبا وأميركا الشمالية، التي انضوت تحت لوائها فرقة "بلاك ساباث" وفرَق روك أخرى، معبّرةً عن آرائها وتطلّعاتها، كانت ثوريةَ المنطلق، خصوصاً بين الشباب، أنتجت ثقافةً مضادة، وتموضعت في مواجهة هرميات السلطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تغوّلت داخل الديمقراطيات الغربية بعد الحرب، وقامت بتدوير ذات النخب الرجعية التي كانت فاعلة قبلها.
"خنازير حرب" (War Pigs) واحدةٌ من أكثر أغاني الفرقة تأثيراً. خصّتها صحيفة فينانشال تايمز بمقالة سنة 2020 عنونتها "كيف مهدت بلاك ساباث الطريق إلى الهيفي ميتال"، وتُعدّ نموذجاً على نهج الثقافة المضادة في مناهضة الحروب وأشكال العنف كافة، كما راقت لروح العصر في أوائل السبعينات. افتُتِح بها ألبومُ الفرقة المعنون "ارتيابي" (Paranoid)، الصادر سنة 1970، وإنْ ترجع الأغنية، بحسب رواية عازف الدرامز بيل وارد، إلى ما قبل ذلك، حين تبلورت عبر جلسات ارتجالٍ مشتركةٍ مطوّلة، عقدتها الفرقة في سويسرا خلال عام 1968.
حافظت War Pigs على طابع الارتجال، إذ جرى تصميمها على فقراتٍ منفصلةٍ متصلةٍ في آن، تتناهى كما لو أنها تداعت بصورةٍ عضوية. تبدأ بصوتِ ضربات على أوتار الغيتار الكهربائي كدوي انفجارات، يصاحبها نبضُ غيتارِ الباص، يصوغ ألحاناً إيقاعية على طريقة البلوز، فيما الدرامز وصنوجُه تُقرع بثقلٍ يوحي بمصابٍ جلل. عند الثانية (0:35)، تُسمع صفاراتُ الإنذار، مدلّلةً على أجواء الحرب، الموضوعة الرئيسية، ممهدّةً الانتقال إلى مقطع الغناء الأول:
"جموعُ جنرالاتٍ محتشدة، كمشعوذين خلال مراسم شيطانية، عقولٌ شريرةٌ تعدّ خططَ الدمار، سحرةُ إعمارِ الموت، تحترق الأجسادُ في الميادين، فيما تستمر آلاتُ الحربِ بالدوران، موتٌ وكراهيةٌ للإنسانية، يُسمِّمان عقولَهم المغسولة". بتلك الكلمات، يصدح المغنّي أوزي أوزبورن، على وقع Riffs مؤلَّفٍ من نغمتَين، ترافقه بخفوتٍ صنجةُ الهاي هات.
لن تتجاوز المقاطعُ الغنائية، على الرغم من قوّة مضامينها، أن تكون مفاصلَ تربط الفقراتِ الارتجالية بين آلاتِ الغيتار، وغيتارِ الباص، وطبولِ الدرامز، ما يزيد من ثرائها الموسيقي. هندسةُ الصوت، إذ توفّر تقنية (hi-fi) إمكانيةً لمضاعفة الأصوات، ثم بثّها عبر مكبّراتِ الصوت، لينفرد كلُّ مكبّرٍ بما يصدُر عنه. بذلك، إنما تتحوّل الأغنية إلى مقطوعةٍ آليةٍ مشبعةٍ بالتوزيع، ومركّبةٍ أدائيّاً وإنتاجيّاً.
من خلال War Pigs، يتجلّى السبقُ الأسلوبي الذي حققته بلاك ساباث، وذلك بإحرازها الكثافة السمعية، مع الإبقاء على مينيمالية الوسائل، ما منح الأغنيةَ خشونةً تعبيريةً، وفي الوقت نفسه أناقةً في ابتكار الجملِ اللحنيةِ والإيقاعيةِ، وطرقِ معالجتها وتوزيعها، لتستثير الأعصاب وتُثير الإعجاب عند مَن يمعن السمع، ولا ينفر مسبقاً من وقع الهدير وشدة الصخب.
هكذا فقد مهّد الجمعُ بين القوّةِ الصوتيةِ والعمقِ المنمَّقِ موتيِّ النزعة (Morbid) لما سيُعرف بجنس "الهيفي ميتال"، الذي ميّز إنتاجات معظمِ فرقِ الهارد روك القاريّة، أي تلك الآتية من أوروبا، وخصوصاً بريطانيا، مثل Judas Priest وRainbow، مقابل الهارد روك الأميركيّ، الأكثر سطحيةً وخفّةً، ممثَّلاً بفرقٍ مثل Stooges وSteppenwolf.
لعلّ ذلك يُعزى إلى الغليان الثوري الذي كانت تعيشه العواصم الأوروبية أواخر الستينيات، على الأخصّ بين الشباب، على المستويَين الاجتماعيّ والسياسيّ. وإذا كان هناك ما يوازيه على الضفة المقابلة من الأطلسي، من حركةِ الحقوقِ المدنية والاحتجاجات المناهضة لحرب فييتنام، فإنّ أوروبا هي القارة التي شهدت الحروبَ الأشدَّ تدميراً في تاريخ البشرية.
وعليه؛ فإنّ حركةَ الثقافة المضادة فيها، وأشكالَ التعبيرِ الفنية المنبثقةَ عنها، رغم طابعها الجماهيريِّ الخفيفِ من جهة، ومضامينِها الباسيفيّةِ الداعيةِ إلى السلمية من جهةٍ أخرى، قد اتّشحت بسوداويةٍ قادمة، واتّسمت بنظرةٍ تشاؤمية، لذا لم تُحسن النظر إلى إرث الحداثة الغربية سوى من رمزيةِ المعدن الثقيل.

Related News

