اضطرابات نفسية... تداعيات العدوان تطاول الجميع في غزة
Arab
16 hours ago
share

يعاني غالبية سكان قطاع غزة من أشكال مختلفة من الاضطرابات النفسية الناتجة من تداعيات العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من 20 شهراً

لا يقتصر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على التدمير وإزهاق الأرواح، بل يخلف اضطرابات نفسية تدمر حياة كثيرين، وتتغلغل في تفاصيل حياتهم اليومية، وتترك آثاراً قد يصعب محوها خلال السنوات القادمة. وتشير تقارير المؤسسات الصحية في القطاع إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد حالات الاكتئاب والانهيار العصبي، خصوصاً بين النساء والأطفال، نتيجة الأوضاع الإنسانية التي يعيشونها بفعل قسوة العدوان، والجوع، وانعدام الأمان، وتكرار النزوح.
وتتضاعف الاضطرابات النفسية بفعل تفاقم المأساة التي يعيشها فلسطينيو غزة نتيجة القصف والحصار والفقدان، والحياة في خيام، أو داخل مراكز إيواء، أو على قارعة الطريق، ويتردد العشرات على ما تبقى من المراكز النفسية في القطاع المدمر.
عاشت آلاء سعد (18 سنة) واحدة من أكثر القصص إيلاماً، إذ فقدت كل أفراد أسرتها في لحظة، وكانت الناجية الوحيدة من بينهم، وشاهدة عيان على استشهاد والدها ووالدتها وشقيقها أمام عينيها. لا تزال تفاصيل ذلك اليوم المفجع عالقةً في ذهنها، ولا تستطيع نسيانه. تقول في إحدى جلسات الدعم النفسي: "أرى في كل يوم أمي وأبي وأخي. كأنه شريط مصور يعرض أمامي". وتضيف لـ "العربي الجديد": "انتهت الحياة بالنسبة لي لأنني لا أستطيع نسيان ما حدث، وهذا يسبب لي تعبا شديدا، وأصبحت لا أرغب بتناول الطعام، ولا أنام براحة كما بقية الناس".
أم أحمد، فلسطينية في أواخر الأربعينات، فقدت ابنيها في قصفٍ عنيف. تقول وهي تغالب دموعها خلال جلسة دعم نفسي: "لم أصدق بعد، لكوني والدة شهيدين، لا أستطيع النوم أو الأكل. ليتني استشهدت وعاشا".
تجرع الفلسطيني وليد سليمان مرارة فقد ابنه الوحيد، ولا يستطيع تجاوز الصدمة. يقول لـ "العربي الجديد": "حياتي انتهت حين استشهد، ولم يعد أي شيء يفرّحني، وأصبحت أتمنى أن أنام ولا أصحو.  خلال أكثر من أسبوعين بعد استشهاده، دخلت في اكتئاب حاد، وتأنيب ضمير، ولازلت أشعر بالتقصير والذنب تجاهه".
لم تتجاوز الطفلة ندى سليم الرابعة عشرة من عمرها، وأصيبت بحروق بنسبة 20% من جسدها بعد قصف منزل عائلتها، ما أدخلها في حالة من الاكتئاب والانطواء على ذاتها، وظلت لفترة ترفض الحديث داخل مركز الدعم النفسي، ما جعلها تحتاج إلى مزيد من الجلسات للخروج من تلك الحالة الصحية والنفسية. تقول لـ "العربي الجديد": "كل البنات حلوات إلا أنا. وجهي محروق، ولن أتزوج".
فقد إبراهيم أحمد (22 سنة) ساقيه في قصف استهدف محيط مسكنه، وفقد معهما كل تفاصيل حياته الجميلة. يقول بصوت يمتزج بالألم: "كنت أعمل، وألعب كرة القدم، وأصبحت عالة على المجتمع، مجرد شخص مبتور القدمين. لم يعد لدي أي أمل في الحياة، وكأن الحياة توقفت عند لحظة الانفجار. لم أعد أشعر بنوم هادئ، وليست لدي شهية لتناول الطعام، ولا أحب الالتقاء بأحد، وأُفضل أن أبقى وحدي دائماً".

بدوره، يلاحظ الفلسطيني محمد سعيد على ابنه البالغ 17 سنة، تغيّرات نفسية مع استمرار الحرب على قطاع غزة. ويقول لـ"العربي الجديد": "بدأ يحب البقاء منعزلاً عن بقية أفراد العائلة، وتتزايد لديه حالة الخوف والقلق والتوتر، خصوصاً عند سماع صوت القصف، وخلال النزوح، عدا عن تفضيله النوم لساعات أطول خلال اليوم. هذا الأمر يشعرني بالقلق عليه، ما دفعني لاستشارة أحد المختصين النفسيين حول هذه التغيرات التي طرأت على حياة ابني، وقد أكد لي أن هذه من بين تداعيات الحرب، وأنه يجب متابعة حالته من خلال إشراكه في أنشطة العائلة، وعدم تركه رهينة القلق والعزلة حتى لا تزداد الأمور سوءاً".
من جهته، يحذر أستاذ الصحة النفسية ورئيس قسم علم النفس في جامعة الأقصى، عبد الله الخطيب، من مخاطر الارتفاع الحاد في معدلات الاضطرابات النفسية بين سكان قطاع غزة، لا سيما الأطفال والنساء، نتيجة الظروف القاسية للحرب، وفقدان الأمن والخصوصية.

ويقول الخطيب لـ "العربي الجديد": "معاناة الحرب ليست مادية فقط، بل نفسية أيضاً، وتُعدّ الاضطرابات النفسية من بين أشد أشكال الألم التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، وأبرز الاضطرابات المنتشرة حالياً هي القلق النفسي، والخوف، والتعلق، فضلاً عن اضطراب ما بعد الصدمة، والوسواس القهري، والاكتئاب".
ويوضح أستاذ الصحة النفسية أن "دراسة علمية أجريت على نحو 5 آلاف طفل في غزة، أظهرت أن 55% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، ما يشكل مؤشراً خطيراً يهدد مستقبلهم النفسي والسلوكي والتعليمي. الوسواس القهري أيضاً في تصاعد، لا سيما في شكل أفكار قهرية تتعلق بأسئلة وجودية أو غياب العدالة، والنسبة التقديرية للإصابات به تتراوح بين 10% و12%، كما أن فقدان الخصوصية، وندرة مواد النظافة في مراكز الإيواء والخيام يساهمان في تفاقم اضطرابات النظافة القهرية لدى كثير من الأشخاص".
ويتابع الخطيب : "الاكتئاب ينتشر بصورة واسعة في مجتمع قطاع غزة، لا سيما بين أفراد العائلات التي فقدت عدداً من أبنائها أو أقاربها، ويظهر على شكل حزن عام، وإرهاق، وشعور بالعجز أو تأنيب الضمير. جميع سكان القطاع تقريباً يعانون من أعراض هذا الاضطراب، لكن بدرجات متفاوتة، وإن لم توثق دراسة شاملة نسب الإصابة بعد. الحرب أدت إلى تداخل واضح بين الاضطرابات النفسية والعقلية، والخط الفاصل بين الاضطراب النفسي والذهني أصبح هشاً، وبات التحول من الاضطراب النفسي إلى العقلي أسرع بسبب شدة الضغط النفسي والتجارب الصادمة، وأبرز مثال على ذلك هو حالات الفصام العقلي الذي يستدعي تدخلاً طبياً عاجلاً".

ويشير إلى "بروز اضطرابات سلوكية مثل السرقة، والغضب السريع، والكذب، والتعلق الزائد، وجميعها في ازدياد نتيجة البيئة النفسية المضطربة. الاضطرابات النفسية تبدأ بأعراض بسيطة، كالعزلة والخوف، أو اضطرابات النوم، لكنها تتطور بسرعة إذا لم يتم التدخل. نعاني كثيراً نتيجة ندرة الأدوية النفسية الأساسية، وما يتوفر حالياً هي بدائل أقل فعالية، ما يعيق عملية التعافي. من الضروري توفير الدعم النفسي والدوائي بشكل عاجل لتفادي تفاقم الأزمات النفسية في القطاع".
بدوره، يقول مدير عام إدارة الطب النفسي في وزارة الصحة بقطاع غزة، عبد الله الجمل، لـ "العربي الجديد"، إن "مشاهد القتل والدمار والنزوح خلال حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع لها انعكاسات نفسية واضحة على كافة فئات المجتمع الفلسطيني. من بين أبرز الأعراض النفسية المنتشرة بين أهالي غزة، خصوصاً بين الأطفال والنساء، الصدمات النفسية، ونوبات الهلع، والقلق، واضطرابات النوم، وفقدان التركيز، وكلها ناتجة من مشاهد القتل المتكررة، والنزوح القسري، وفقدان الأحبة".

ويشير الجمل إلى أن "تدمير مستشفى الطب النفسي الوحيد في قطاع غزة، إلى جانب تدمير 8 مراكز للرعاية النفسية الأولية زاد من تفاقم الأزمة، في ظل غياب البرامج المتخصصة، ونقص الكوادر، وفقدان أكثر من 70% من أدوية الأمراض النفسية. الخدمات النفسية المتوفرة لا تغطي سوى أقل من 10% مما كانت تقدمه وزارة الصحة قبل الحرب، وقلة فقط من المواطنين يقررون تلقي العلاج، إما بسبب انهيار النظام الصحي، أو لصعوبة الوصول إلى المراكز الصحية القليلة المتبقية".
ودمّرت قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى الطب النفسي في مدينة غزة خلال الشهر الأول من العدوان على القطاع، والذي كان يقدم خدمات المبيت للمرضى النفسيين الذين يعانون من انتكاسات حادة، ما جعل جميع الحالات المرضية بلا رعاية، الأمر الذي يشكل خطورة على حياتهم، أو يجعلهم يواجهون مصيراً مجهولاً.
وتفرض إسرائيل منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي، حصاراً مطبقاً على 2.4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، طاول كل مناحي الحياة، وألقى بظلال كارثية على الوضع النفسي لمعظم العائلات الفلسطينية، والتي تعاني من ويلات القصف والدمار والنزوح، مع عدم توفر ما يكفي من الغذاء والأدوية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows