
تبدو الأسباب التي سيقت لتبرير "نقل" تمثال الشهداء من ساحة سعد الله الجابري في حلب قاصرة عن الإقناع، والأسوأ أن تهشّم النصف العلوي من التمثال أثناء نقله يبدو نتاج عدم اكتراث شائن، إن لم نقل استهتاراً بكل المعايير الاحترافية المفترضة للتعامل مع عمل فني يبلغ طوله عشرة أمتار وعرضه خمسة أخرى، ما يفترض أن يكون موضوع تحقيق ومساءلة، خاصةً أن التمثال كان جزءاً من "الهوية البصرية" للساحة والمدينة. إلا إذا كانت الهوية البصرية الجديدة لسورية، التي أُعلنت قبل أيام، تقوم على إلغاء كل هوية أخرى سابقة عليها، حتى لو كانت تأسيسية وجمالية.
التماثيل جزء من بناء الهوية الوطنية العابرة للحكومات والأنظمة في تاريخ سورية، وكان أول تمثال عرفته البلاد في هذا المعنى للشهيد يوسف العظمة (1884 – 1920)، وزير الدفاع خلال معركة ميسلون ضد الاستعمار الفرنسي. بل إن أشهر أعمال رائد النحت السوري محمد فتحي هما تمثالا الجنرال عدنان المالكي وإبراهيم هنانو، والأخير من قادة الثورة السورية ضد الفرنسيين، إضافةً إلى تماثيل كثيرة تجدها حيثما ذهبت في مدن سورية.
ولا علاقة للأمر من قريب أو بعيد بتماثيل الرئيس الراحل حافظ الأسد، التي كانت تفتقر إلى الإبداع، ودورها وظيفي، تمجيدي، لرأس النظام؛ فهدف نحتها وإقامتها كان جزءاً من رسالة النظام القائمة على تأبيد نفسه ورئيسه وترهيب مواطنيه، في تقليد مبتذل وفج لنموذج توظيف الفنون في دول أوروبا الشرقية في الحقبة السوفييتية.
وهو ما لا ينطبق على تمثال الشهداء الذي صمّمه ونفّذه النحّات عبد الرحمن مؤقت، بناءً على تكليف من بلدية حلب، وبهدف تجميل إحدى ساحاتها. فكيف لعمل فني كان الهدف الأساسي منه جمالياً ووطنياً أن يصبح عبئاً في حلب، بينما لم يحدث الأمر نفسه بخصوص نُصب السيف الدمشقي في ساحة الأمويين، الذي أُبقي عليه بل تمت صيانته أيضاً؟
ربما لأن الأخير تجريد، بينما الأول واقعي-تعبيري، وقد يعود سبب إزالة، وليس نقل، تمثال الشهداء إلى مرجعيات أيديولوجية – ولا نقول دينية – لمفهوم الفنون ودورها، وهذا مرجّح وشائن إذا صح. فما سيق وما حدث من تهشيم للنصف العلوي من التمثال، على ما رأينا، يدلان على موقف مسبق أكثر منه غياب احتراف؛ فلو كانت ثمة جدية مشفوعة بفهم حقيقي للفنون وتقدير لها ولأدوارها المتعددة، وأهمها الجمالي، لما شهدنا تلك المهزلة التي وثقتها فيديوهات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي.
والمفارقة المحزنة أن هذا حدث قبل يوم واحد من إعلان الهوية البصرية الجديدة للبلاد، كأن ما هو حداثوي ومعاصر (الهوية البصرية) لا يمكن تقبّله إلا بمضامين انتقائية وأيديولوجية، تستأصل وتُزيل وتمهّد الأرضية لحداثة مدّعاة ومشوّهة، تُعنى بالاستعراض والبث الحي، وليس بمفهوم الهوية الحقيقي، وهو تعدّدي بالضرورة في حالة سورية، وليس أحادياً. وإلا فبماذا يختلف العهد الجديد عن عائلة الأسد والحال هذه؟
تخلّص السوريون والمنطقة أيضاً من كابوس الأسد الطويل والبشع والمديد، ولكن ثمة ما ينبغي عدم إغفاله هنا، وهو أن الفنون في عهدي الأب والابن حققت درجة من الاستقلالية عن العسف والغباء، لا يجوز إنكارها. ونشأت هذه الاستقلالية إما بالتحايل على القبضة الأمنية المشدّدة، وإما بانسجامها مع أهداف مضمرة لدى النظام، تتيح له استثمارها لصالحه، بإنتاج صورة عن نفسه باعتباره معاصراً، يمثّل جميع مكونات شعبه، و"متسامحاً" مع منتقديه حتى لو وجّهوا سهامهم إلى رجالات النظام نفسه، كما في بعض أعمال الدراما التلفزيونية.
ومن البؤس الآن وهنا، الظنّ بأن كل إنتاج فني في عهد الأسدين كان يمثّل هذا النظام وفي خدمته؛ بينما الحقيقة أنه كان عملاً من أعمال المقاومة على نحوٍ ما، وبعضها ذكي ومركّب وليس غنائياً في بنائه ورسالته وجمالياته.
ما حدث في حلب شائن في كل المقاييس، ويذكّر بنظام الأسد ومعارضيه من متشدّدين فاخروا بتدمير تمثال أبي العلاء المعري. كان المأمول أن يذهب النظام بإرثه، الذي يشمل أيضاً أساليب معارضيه المتشددين، باعتبارها ردّات فعل تكتسب صفات الفعل نفسه. لكن ما شاهدناه يمثّل تمدّد النظام الراحل وتسلّله إلى العهد الجديد، فإذا بنيتهما واحدة، ما لم نقرأ عن قرارات تصدر لتحاسب وتعاقب وتُصوّب.

Related News


