
بعد توقف استمر لأكثر من ستة أشهر، تشهد عدد من محافظات سورية استئنافاً تدريجيّاً لعمل مديريات الشؤون المدنية (النفوس)، في خطوة تهدف إلى إنهاء حالة الشلل التي أصابت تسجيل الولادات والوفيات وكذلك الزواج والطلاق وإصدار الوثائق الثبوتية، ما يلقى بظلالٍ ثقيلة على حياة المواطنين، رغم جهود تقنية تبذلها الإدارة الجديدة لدمج قواعد البيانات المتناثرة، وترميم بنية تحتية متدهورة.
وأعلنت محافظة حلب استئناف عمل مديرية الشؤون المدنية التابعة لها، اعتباراً من 2 يوليو/تموز الجاري، بعد أشهر من التوقف شهدت خلالها المديرية أعمال توسعة وتطوير. ونقلت وسائل إعلام محلية عن محمد الشواخ، مدير الشؤون المدنية في حلب، أن العمل الحالي يتمثل في إتمام دمج قواعد بيانات المواطنين التي كانت متناثرة ومتباينة، بهدف توحيدها ضمن قاعدة بيانات مركزية.
وقال مصدر من مديرية الشؤون المدنية في حلب لـ"العربي الجديد" إن "عملية تنظيم البيانات مستمرة لتشمل جميع المواطنين، بهدف تسهيل إصدار الوثائق الرسمية مستقبلاً. المديرية تعمل على تسهيل إصدار الأوراق الرسمية للأشخاص الحاملين لبطاقات شخصية مؤقتة، ريثما تتمّ عملية الدمج الكاملة للبيانات تمهيداً لإصدار هويّات سورية جديدة".
واستأنفت مديرية الشؤون المدنية عملها في محافظة درعا في الأول من يوليو، وصرّح مدير المديرية عبد الله إبراهيم، لوكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا)، بأن العمل عاد إلى طبيعته عبر مراكز المديرية المنتشرة في مدينة درعا وعدد من مناطق المحافظة، مثل بصرى الشام ونوى وغباغب والصنمين وإزرع. وشدد على ضرورة تقديم "كل المعاملات المدنية" للمواطنين عبر هذه المراكز.
وفيما سبقت محافظتا ريف دمشق وحماة باستئناف عملهما منذ فبراير/شباط، تنتظر محافظة طرطوس عودة مديرية الشؤون المدنية خلال أيام، أما محافظات السويداء ودير الزور والقنيطرة ومحافظات شمالية أخرى، فقد لوحظ تعطل عمل دوائر الشؤون المدنية فيها طوال الأشهر الستة الماضية. الأمر الذي يترك آلاف المواطنين في هذه المناطق بحالة ترقب، خصوصاً أولئك الذين تتطلب معيشتهم أو معاملاتهم القانونية الحصول على وثائق ثبوتية حديثة أو تسجيل وقائع جديدة.
من محافظة السويداء، يروي أبو وائل (54 سنة) معاناته المستمرة، قائلاً: "لتسجيل ولادة طفل أو لاستخراج أي ورقة ثبوتية مهمة، بتنا نضطر إلى التوجه لدمشق، مع العلم أن التكاليف باهظة. تكلفة المواصلات وحدها تصل أحياناً إلى 70 ألف ليرة سورية (نحو سبعة دولارات)، عدا عن التنقلات الداخلية والمصاريف المرافقة. وتصل كلفة استخراج ورقة أحياناً إلى ما يتجاوز 150 ألف ليرة سورية (نحو 15 دولاراً)، ناهيك عن الانتظار، بينما تكلفة استخراج الورقة الرسمية لا تتجاوز 15 ألف ليرة سورية (أقل من دولارين). الأمر أشبه بغرامة غير مكتوبة ندفعها بسبب عدم اكتمال الصلاحيات هنا أو عدم تحديث النظام". ويضيف أبو وائل بمرارة: "حتى تسجيل الوفاة تطلّب رحلة شاقة إلى العاصمة. في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، تحولت أبسط الحقوق الإدارية إلى كابوس مالي".
ومن محافظة دير الزور، تؤكد أم محمد لـ"العربي الجديد" أنها تعيش في حالة قلق دائم منذ ولادة ابنتها قبل خمسة أشهر، حيث لا يمكنها تسجيلها رسميّاً لغاية تاريخه، ما يعني عدم وجود أي وثيقة تثبت وجودها أو نسبتها. الأمر الذي يمنع حصولها على الرعاية الصحية المخصّصة للأطفال، ناهيك عن مستقبل تسجيلها في المدرسة. وتضيف: "حاولت الذهاب إلى دمشق، لكن التكاليف باهظة والطريق غير آمن. كل ما نسمعه مجرّد وعود بعودة الخدمات قريباً، لكن "قريباً" هذه تأخرت كثيراً. مع العلم أن امتلاك وثيقة لهويتك هو أساس حقك في الوجود أمام الدولة، ونحن محرومون من هذا الأساس لأننا نعيش في دير الزور".
وأشار مدير الشؤون المدنية على مستوى سورية عبد الله عبد الله، إلى أن التوقف الطويل عن تسجيل الوقائع الجديدة وإصدار البطاقات الشخصية يعود إلى سببَين رئيسيّين. الأول يتمثل في "الإهمال الكبير من قبل الإدارات السابقة باتجاه تطوير شبكة البيانات"، لافتاً إلى أن الإدارة الحالية تعمل على صيانة هذه الشبكة المتدهورة وتطويرها من الصفر تقريباً. والسبب الثاني، الأكثر تعقيداً، يتعلق بدمج شبكات البيانات التي كانت تعمل بشكل منفصل أو شبه منفصل في مناطق مثل إدلب وشمال حلب مع الشبكة الرئيسية المركزية. وأوضح أن هذا التشرذم في قواعد البيانات أدى إلى تناقضات خطيرة، مثل بقاء حالة مواطن سُجل زواجه في إدلب خلال السنوات الماضية على أنه "أعزب" في قاعدة بيانات دمشق المركزية، ما يخلق مشكلات قانونية وإدارية جمّة.
وتواجه عملية استعادة عمل الشؤون المدنية بكفاءة تحديات جسيمة تتجاوز الجانب التقني لدمج قواعد البيانات. أبرز هذه التحديات يتمثل في البنية التحتية المتهالكة وشبكات الاتصالات والكهرباء غير المستقرة في العديد من المناطق والتي تعرقل عمل الأنظمة المحوسبة الحديثة، إضافة إلى نقص الكوادر المدرّبة لأن النظام الجديد يتطلب كوادر فنية وإدارية ذات مهارات عالية في التعامل مع البرمجيات المعقدة وإدارة قواعد البيانات المركزية، وهو أمر قد لا يتوفر بالعدد الكافي حاليّاً. عدا عن الامتداد الجغرافي واللوجستي وضعف شبكة المواصلات وصعوبة التنقل بين المناطق، خصوصاً في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية التي تجعل من الصعب وصول المواطنين في المناطق النائية أو المحافظات التي لم تستأنف العمل بعد، إلى المراكز القليلة العاملة، كما تزيد من صعوبة توزيع المستلزمات الفنية وتدريب الكوادر على النظام الجديد. وكذلك هناك جانب الثقة المفقودة، حيث إن سنوات من سوء الخدمة والروتين المعقد والفساد أدت إلى تراجع كبير في ثقة المواطن بالمؤسسات الحكومية، ما يتطلب جهداً مضاعفاً لاستعادة هذه الثقة من خلال شفافية الأداء والتحسين الملموس للخدمة.
يقول الناشط المدني والصحافي علي الحسين لـ"العربي الجديد" إن عودة مديريات الشؤون المدنية إلى العمل، وإن كانت متدرّجة وبطيئة وتشوبها عقبات كبيرة، تمثل خطوة ضرورية نحو استعادة حد أدنى من طبيعة الحياة المدنية المنظمة واستعادة الدولة لدورها الخدمي الأساسي في تسجيل هويّات مواطنيها وتوثيق وقائع حياتهم، مردفاً إن نجاح هذه العودة في تحقيق أهدافها المُعلنة بتوحيد البيانات وتسهيل الإجراءات لن يُقاس فقط بتشغيل المراكز، بل بمدى قدرة المواطن البسيط في السويداء أو دير الزور أو ريف حلب على تسجيل ولادة طفله أو استخراج هويّته من دون معاناة مفرطة أو تكاليف باهظة، وبمدى قدرة النظام الجديد على طيّ صفحة الإرث الثقيل من التشرذم المعلوماتي والإهمال الذي طاول هذه الخدمة الحيوية لعقود. الأسابيع والأشهر المقبلة ستكون محكّاً حقيقيّاً لجديّة هذه التحولات الإدارية الموعودة.

Related News


