
في أعقاب كلّ مواجهة عسكرية بين إسرائيل وقوى المقاومة في المنطقة، يتصاعد خطابٌ إعلاميٌّ يدّعي أن الدولة العبرية لا تكتفي بتحقيق تفوّق عسكري، بل باتت تمتلك القدرةَ على إعادة تشكيل الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، بما يتماشى مع رؤيتها الاستراتيجية. وهو ما عبّر عنه صراحةً رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مؤكّداً أن حملات إسرائيل العسكرية "تُغيّر وجه الشرق الأوسط"، في وقت تشير فيه التصريحات الرسمية الإسرائيلية بمعظمها إلى تصوّر مبرمج يقود فيه الجيش الإسرائيلي، وحلفاؤه الدوليون، ولا سيّما الولايات المتحدة، مساراً جديداً لإعادة هندسة المنطقة.
هذا الخطاب الاستعماري المتعالي، الذي يُضفي على إسرائيل صورةً "سوبرمانية"، يستند إلى واقع حقيقي لا يُمكن إنكاره، بأن إسرائيل دولة تمتلك منظومةً أمنيةً متفوقةً، واقتصاداً تكنولوجياً متطوراً، وتحالفات دولية قوية، مقابل قدرات القِوى المُقاوِمة العسكرية والاقتصادية والسياسية المتواضعة في المنطقة. لكنّ قياس النصر والهزيمة من زاوية التفوّق العسكري فقط يُعدّ قراءةً سطحيةً للصراع، تتجاهل العوامل الأعمق المتعلّقة بالهُويَّة والشرعية، وبالمقاومة المجتمعية الممتدة في عمق الجغرافيا السياسية والثقافية للمنطقة، فالهزيمة ليست إعلاناً تاريخياً للنهاية، ولا نحتاج بالتأكيد إلى مزيد من منظّرين في الإعلام والسياسة والاقتصاد، يقومون بتلطيفها والقفز عن نتائجها، بل تحتاج إلى خطاب يتعاطى معها بوصفها لحظة انتقال وإعادة بناء، إن سلّمنا بوقوعها أصلاً، وبانتصار إسرائيل وقدرتها على إعادة بناء منطقة الشرق الأوسط في ظلّ حروبها الماضية، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث وفق المعطيات الحالية، بسبب عوامل عديدة، أولها أن إسرائيل رغم قوتها العسكرية تبقى دولةً صغيرةً جغرافياً تقع وسط محيط عربي وإسلامي رافض لوجودها وغير متقبّل لها، ولا تزال شعوب المنطقة تنظر إليها بوصفها "حدثاً طارئاً"، لا دولةً طبيعيةً في المنطقة، ولا جزءاً من نسيجها الحضاري. بمعنى أن خصومها ليسوا حركات مسلّحة مقاومة لها فقط، بل هم أيضاً شعوب دول المنطقة العربية التي عبّر 84% من مواطنيها عن رفضهم الاعتراف بإسرائيل في تقرير المؤشّر العربي 2022، ليس بسبب مواقفَ سياسيةٍ حكوميةٍ، بل لأنهم يعتبرونها كياناً استعمارياً احتلالياً. كذلك قال 76% من مواطني المنطقة إن القضية الفلسطينية ليست حكراً على الفلسطينيين، بل قضية العرب جميعاً.
بدلاً من الارتهان لدورات متكرّرة من الهزيمة، فإن المطلوب هو تحويل التراجع فرصةً لإعادة التأسيس
هذه النتائج تُسقط فرضية "تطبيع الشعوب" وانصياعها لخطاب نتنياهو، الذي يطمح إلى أن تصبح شعوب المنطقة ضمن منطقة نفوذ دوله، وتؤكّد أن إسرائيل لا تزال كياناً غريباً عن السياق التاريخي والثقافي للمنطقة، رغم نجاحها المؤسّسي والأمني، وقدرتها على تحقيق اختراقات في ما يتعلّق بالتطبيع مع حكومات بعض الدول العربية. العامل الثاني هو افتقار إسرائيل، وبخلاف القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (تركيا وإيران ومصر والسعودية)، إلى عمق استراتيجي يسمح لها بالمناورة وامتصاص الهجمات، ممّا يقيّد إمكانات التوسّع والنفوذ الجغرافي المستدام، وهو ما برهنت عليه الحرب أخيراً مع إيران. أمّا العامل الثالث فمرتبط بطبيعة التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فمشروع "هندسة الشرق الأوسط" لا يمكن أن يتحقّق من دون الارتكاز ضمناً إلى تفوّق الولايات المتحدة وهيمنتها على القرار الدولي. وبالتالي، أيّ تغيير من واشنطن في المنطقة قد يُسهم مباشرة في إضعاف إسرائيل وقدرتها على التأثير في الإقليم. العامل الرابع يتجسّد في جود المقاومة الفلسطينية بكلّ أشكالها، السياسية والعسكرية، رافضةً فكرة الهزيمة من أصلها، فمَن يُقنِع المقاوم الفلسطيني، الذي رمى بكل شجاعة عبوةً متفجّرةً عبر فوّهة داخل دبابة جنود الاحتلال، بأنه قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة وتأسيس نظام شرق أوسطي لإسرائيل فيه الكلمة العليا؟
قد تنجح إسرائيل في تحجيم قدرات الفصائل المسلّحة في فلسطين ولبنان واليمن، وقد تتمكّن من تنفيذ عمليات استخباراتية دقيقة داخل بعض الدول العربية، إلا أن قدرتها على إنتاج نظام إقليمي مستقرّ، وفق معاييرها الأمنية والسياسية، محدودة، وعاجزة عن إحداث شرعية إقليمية حقيقية، فإسرائيل، رغم قوتها الظاهرة، لا تزال كياناً مرفوضاً على المستويين الرمزي والثقافي، في الوعي العربي، وغير قادرة على أن تصبح "دولةً طبيعيةً" في الفضاء الإقليمي. لكن في مقابل فشل إسرائيل في فرض نظامها، تبرز الحاجة الماسّة إلى مشروع عربي تحرّري عقلاني طويل الأمد، لا يكتفي بالمقاومة المسلّحة خياراً وحيداً، بل يتجه نحو إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها في المشرق العربي، إذ عانت دول المنطقة من انهيارات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى، بعضها نتيجة تدخّلات خارجية، وبعضها الآخر نتاج إخفاقات داخلية في الحكم والإدارة والتنمية. فالمعركة الحقيقية لا تُخاض فقط في الجبهات أو في ردّة الفعل، بل في إنتاج نموذج سياسي ومؤسّسي قادر على استعادة الثقة والمبادرة والمناعة الوطنية. وبدلاً من الارتهان لدورات متكرّرة من الهزيمة، فإن المطلوب هو تحويل التراجع فرصةً لإعادة التأسيس، واستثمار الانكسارات بوصفها أدواتٍ لبناء مشروع شامل يعيد الاعتبار للإنسان والكرامة والسيادة.

Related News

