أسمهان... الأرستقراطية والتمرّد والغموض
Arab
8 hours ago
share

بين الأصوات الغنائية التي عرفها العرب خلال القرن العشرين، تبرز أسمهان (1912 - 1944)، باعتبارها ظاهرة استثنائية، ليس لأنها امتلكت صوتاً فريداً، بل لأنها حملت مزيجاً نادراً من الأرستقراطية والتمرد، والتراجيديا والعبقرية، والوهج الخاطف والفقدان المبكر. كانت تجربة فنية قصيرة بمقياس الزمن، لكنها زرعت أثراً لا يُمحى في ذاكرة الغناء العربي.

شريط حياتها يشبه رواية بوليسية، أو فيلماً من أفلام الإثارة والغموض: أميرة درزية، ولاجئة سياسية، وزوجة تقليدية، وفنانة متمردة، وعميلة استخباراتية محتملة. هذا الخليط جعل من صوتها مرآة لانقساماتها، فانعكست أحزانها على غنائها كله، حتى لو كان اللحن الذي تغنيه يعبّر عن مشاعر الأنس والبهجة.

كانت امرأة تقول ما تشاء، وتغني ما تشاء، وتعيش كما تشاء، وحرصت على أن تكون تصرفاتها إعلاناً رمزياً عن تحرر لا يمكن قبوله اجتماعياً أو فنياً في ذلك الوقت، وقد أرادت ألا يكون غناؤها ساتراً لآلامها النفسية، فحملت أغانيها ما هو أكثر من العبارات التي ينطق بها النص المكتوب، وأصرت أن تعبّر عن العالم كما تراه هي، لا كما يُراد لها أن تراه.

لم تتجاوز الرحلة الفنية لأسمهان سبع سنوات، وهي فترة قصيرة بكل المقاييس، لكنها كانت كافية لتؤسس من خلالها هوية غنائية شديدة الخصوصية. غنّت في السينما، وفي الإذاعة، وقدّمت أغنيات خالدة، وتركت تسجيلات نفيسة بقيت متداولة بين المهتمين. 

قصَر المدة لم يكن مثلبة في ذاته، بل لعله كان موطن الغواية في مسيرتها الفنية، فهي تمثل في الذاكرة الثقافية نموذج الفنان الذي لم يُكمل لوحته. وعلى عكس أم كلثوم التي راكمت طبقات من المجد والتاريخ، بقيت أسمهان في لحظة العبور، ولعل في هذا ما يفسر فتنة الجمهور بها حتى اليوم.. إنها الفنانة التي بقيت وعداً، ولصقت بسيرتها عبارة "لو عاشت".

عند وضع تجربة أسمهان في سياقها التاريخي، لا يمكن فصلها عن لحظة التحوّل في العالم العربي: سقوط الإمبراطوريات، صعود القوميات، ظهور الإذاعة والسينما كأدوات لتشكيل الوعي. كانت أسمهان جزءاً من هذا التحوّل، بل أحد تجلياته. إن صوتها كان أشبه بخطاب يعكس قلق المرأة المثقفة، الممزقة بين الأدوار، الطامحة إلى الحرية، والعالقة في شبكات السياسة والجندر. ولأنها كانت كذلك، فإن حضورها لم يكن بسيطاً، ولم يكن قابلاً للتكرار.

وفهم تجربة أسمهان ضمن السياق الجمالي للموسيقى العربية في الثلاثينيات والأربعينيات، يخلق سؤالاً جوهرياً عن الحدود الممكنة للتجديد دون تفريط بمعالم الموروث. أسمهان لم تأتِ لتقلب الطاولة على كل ما سبقها من غناء وموسيقى، لكنها أيضاً لم تكن امتداداً طبيعياً له.

لقد عبّرت عن توتر دائم بين ذائقة مشرقية محافظة وميولها الشخصية التي تأثرت بالغرب، سواء في نمط حياتها، أو في حسّها الموسيقي. ولأنها لم تنشأ على يد مشايخ التخت الشرقي، أو تحفظ القصائد القديمة منذ الطفولة كما فعلت أم كلثوم، بل تلقت تعليماً مدنياً، واطلعت على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، فقد تكوّن لديها وعي موسيقي هجين، لم يُسمح له بالتحقق الكامل.

امتاز صوت أسمهان بليونة استثنائية تمتد على طبقات متعددة، دون أي من مظاهر الضغط أو الصراخ. واشتركت المساحة الصوتية مع تلك الليونة في إنتاج الصوت بطواعية تقترب من الإعجاز.. ذبذبات صوتها ليست مجرد تقنية، بل وسيلة تعبير حقيقية. فهي لا تهدف إلى التزيين فقط، بل إلى الإيحاء، وبث معاني الحزن أو الانكسار، أو حتى التعالي النبيل.

وعندما تغني كلمة مثل "هوان" أو "أنين"، فإن الاهتزاز الصوتي لا يستخدم باعتباره زحرفة، بل يأتي كأنه مكوّن درامي يضيف قيمة حقيقية. أما نطقها، فكان نقياً، لا اصطناع فيه ولا تكلف، بل فيه فصاحة مغناة، ولا يعكر على هذا الحكم ضعف بعض مخارج الحروف عندها، لأنها من الأصل ليست من المنتمين إلى مدرسة التجويد، والغناء المشيخي.

وربما كان ذلك أهم أسباب قبول صوتها لمسحة غربية واضحة، وصلاحية أدائها للجمع بين أفكار لحنية متباينة، يمكن للملحن من خلالها أن يدمج بين الروح الشرقية والتأثيرات الغربية الكلاسيكية، ولا سيما في سنواتها الأخيرة، أي بعد أن تجاوزت مرحلة التأسيس والغناء التقليدي، وحازت قدراً من الخبرة التي أنضجتها الممارسة.

ولعل تلك القابلية الأدائية، كانت أهم حيثيات لقاءاتها المهمة مع ألحان محمد القصبجي، الذي وجد بغيته ومراده، لا في صوتها الاستثنائي فقط، بل في انفتاحها وقبولها للتجارب الأكثر جرأة. لم يكن بين الملحنين من يستطيع أن يقدم لأسمهان لحن "يا طيور"، ولم يكن بين المطربات من تقدر على أدائه بهذا المستوى المعجز الذي قدمته، تلك حقيقة لا تتأثر بمسألة اقتباس القصبجي اللحن من عمل غربي أقدم.

ليس من السهل الحديث عن موقع أسمهان في تاريخ الغناء العربي دون أن تحضر أم كلثوم باعتبارها مرجعية معيارية، أو بوصفها النموذج الذي تحاكم إليه سائر القمم. ولعل السبب الرئيس في استحضار اسم أم كلثوم عند عقد المقارنات مع صاحبات الأصوات الكبيرة أن الحالة الجماهيرية، وسرديات "النقد الشعبي" لا ترضى عند إعجابها بأحد إلا برفعه على العرش، ومنحه المكانة الأولى، التي يتفوق بها على الجميع بلا استثناء.

وبالطبع، فإن أصحاب تلك الحالة يجدون أنفسهم دوماً مطالبين بمقارنة "قممهم" بأم كلثوم، وتقديم حيثيات علمية وموضوعية عن أسباب تفوقهم على مطربة العرب العظمى.

وفي النظر البانورامي السريع، تأتي أسمهان برحلة فنية قصيرة لم تجاوز سبع سنوات، وتقف أم كلثوم ومن خلفها 60 عاماً من الغناء المتصل، وهي فترة لم تتزحزح فيها السيدة عن موقع الزعامة والأولية لحظة واحدة.

من المهم أن يتذكر من يصرّ على تلك المقارنات أن أسمهان -في حياتها- لم تشكل أي قدر من المنافسة لأم كلثوم، ولم تهدد مكانتها يوماً، والأسباب في هذا السياق متعددة، لكن يأتي في مقدمتها أن المنافسة الحقيقية لأم كلثوم لا يمكن أن تأتي عبر أسطوانات أو تسجيلات الاستوديو، لأن سيدة الطرب جعلت من الأغنية المسرحية المطولة ميدانها الأول، وحققت فيه من النجاح والهيمنة والسيطرة ما يكفي لإلغاء مجرد التفكير في منافستها.

من المفيد في هذا السياق التذكير بحديث مسجل مشهور لفريد الأطرش، يقول فيه إن شقيقته أسمهان لو قدر لها أن تعيش حياة أطول لربما استطاعت بألحان محمد القصبجي أن تنافس على المرتبة الأولى. وهذا يعني ضمناً أنها لم تنافس على هذه المرتبة في حياتها.

تُظلم أسمهان كثيراً بهذا النوع من المقارنات، لأنها رغم قصر حياتها مثّلت طيفاً فنياً كاد أن يرسم خطاً مغايراً للمشهد الكلثومي السائد. لقد شقت بغنائها طريقاً جمالياً آخر، أكثر تحرراً، وأقل التزاماً بالطقوس الغنائية التي كرّستها أم كلثوم.

الحرية هنا تعني قبول مقترحات تلحينية تتسم بالجرأة والاقتراب من الروح الغربية، ولا تعني بأي حال الحرية الأدائية عند غناء اللحن، لأن هذه المنطقة كادت أن تكون احتكاراً كلثومياً. لقد شكّلت أسمهان بصوتها وفنها استثناءً طارئاً وجريئاً، ووقفت على رأس مدرسة غنائية موازية للمدرسة التجويدية المشيخية التي تزعمتها أم كلثوم.

لا يمكن فصل حضور أسمهان الغنائي عن حضورها السينمائي، نعم، قدمت فلمين فقط هما: "انتصار الشباب" و"غرام وانتقام"، لكنهما لا يزالان يحملان قيمة تاريخية كبيرة.

في كليهما، لا تظهر فقط مطربةً، بل ممثلةً تمتلك كاريزما آسرة، وصوتاً يتحول أمام الكاميرا إلى تعبير مرئي عن ألمها الدفين. لقد أسهمت السينما في تخليد صورتها البصرية، وثبتت في الوجدان الشعبي جمالها النادر، ومن اللافت أن هذا الظهور السينمائي لم يضعف من صورتها الطربية، بل عمّقها، وأضفى عليها أبعاداً درامية ساهمت في ترسيخ أسطورتها.

ماتت أسمهان غرقاً يوم 14 يوليو/ تموز عام 1944 في حادث لا يزال يثير الأسئلة. وكأن قدرها كان أن تظل في عمق الأسطورة. هذا الموت التراجيدي منحها ما لم تكن لتحصل عليه بالحياة الطويلة: الخلود الرمزي. فهي على عكس الذين عاشوا طويلاً حتى بهتت ألوانهم، بقيت كما هي: براقة، غامضة، وآسرة.

الحديث عن أسمهان ليس استعادة لماضٍ غنائي، بل محاولة لفهم سؤال أكبر: كيف يخلد من لم يكتمل؟ ومن هنا، يمكن القول إن أسمهان جسدت مبكراً الصراع الذي ستعيشه الأغنية العربية لاحقاً مع الحداثة.

قدمت أسمهان نماذج غنائية أقل انغماساً في الطرب التقليدي، وأكثر اقتراباً من منطق الأغنية القصيرة ذات الرسالة المركّزة، دون أن تفقد مع ذلك ملامحها الشرقية. أغنيتها ليست مجرد "طرب"، بل تكوين موسيقي يحمل أثر الانفتاح الفكري والزمني، ومع ذلك يحتفظ بصلات واضحة مع جذوره.

يمكن اعتبار أسمهان واحدة من أُوَل المغنيات العربيات اللواتي امتلكن صوتاً يتكلم من داخل الذات النسائية، لا من خارجها. لقد سبقت في ذلك كثيرات ممن أتين بعدها، لكنها بقيت ظلاً باهتاً في سردية الغناء العربي، لأن صورتها تعارضت مع مفاهيم الجدية والانضباط والوقار التي رسّختها أم كلثوم ثم فيروز.

ورغم أن إنتاجها قليل جداً مقارنةً بغيرها، فإن تأثيرها لا يمكن قياسه بالأرقام أو عدد التسجيلات. تأثيرها أقرب إلى فكرة "الرمز" الذي يبقى حياً رغم زوال مادته. من النادر أن تُذكر في الدراسات الموسيقية دون أن يُربط اسمها بصفات مثل "العبقرية الغائبة" أو "النجمة التي لم تكتمل"، وهذا وحده كافٍ ليشير إلى أن صوتها لا يزال حياً في المخيلة الجمعية.

في تأملنا لتجربة أسمهان، لا نواجه فقط مغنية رحلت باكراً، بل نواجه نموذجاً فنياً وإنسانياً بالغ التعقيد، تجاوز في لحظته إمكانات الزمن الذي وُلد فيه. لقد كانت أسمهان أكبر من مشروع فني لم يكتمل، وأعمق من قصة مأساوية ذات نهاية غامضة. كانت لحظة استثنائية في الغناء العربي، لحظة قصيرة، لكن مكثفة، قالت فيها الموسيقى ما لم تقدر عليه السياسة أو المجتمع: إن الصوت يمكن أن يكون حراً، متجاوزاً القيود، قادماً من هشاشة الذات، لا من صلابة الأيديولوجيا.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows