أثقال لا تُلقى وكنوز لا تُنسى
Arab
1 week ago
share

مرّةً قال رسول حمزاتوف: "السلاح الذي تحتاج إليه مرّةً واحدةً عليك أن تحمله العمر كلّه، والأبيات التي ستردّدها العمر كلّه تكتب مرّةً واحدةً". عبارة كأنها مرآة لحقيقتَين متناقضتَين تتعايشان داخل الإنسان: حملٌ لا يفارقه، وكنز لا يغادره. في سطرَين فقط، لخّص حمزاتوف عبء التجربة، وسحر الكلمة. فالذي يُكتَب بصدق، والذي يُحمَل بخوف، لا يُنسى ولا يُستبدَل.

نحن لا نحمل البنادق فقط، بل نحمل صدمات وخيبات وذكريات. السلاح الذي نحتاج إليه مرّة في لحظة ضعف أو مواجهة أو حرب، يصبح فجأةً جزءاً من أجسادنا، نعلّقه على أكتافنا وإن انتهت الحرب، ذلك أن ما يُستدعى لحظة النجاة، يبقى ذكرى الخطر، لا نتخلّص منه بسهولة، لا لأننا نحتاج إليه كلّ يوم، بل لأننا لا نثق أن السلام سيدوم. السلاح هنا لا يعني البندقية فقط، بل هو كلّ ما نحمله لندافع عن أنفسنا في عالمٍ شرس. الكلمة الحادّة، النظرة الصلبة، الجدار الذي بنيناه حول قلوبنا، الصمت الذي اخترناه بدل الانكشاف... كلّها أسلحة نُشهرها مرّةً، ثمّ لا نعرف كيف نضعها.

مثلاً، عندما يخونك صديق، قد لا تحتاج أن تُغلق قلبك على العالم كلّه، لكنّك تفعل. وعندما يكسرك موقف، قد لا تكون الحاجة إلى السخرية أو التبلّد ضروريةً، لكنّك تتسلح بها، لأنها أنقذتك مرّة، ستظنّ أنك لن تعيش من دونها بعدها. وهكذا... نُصبح أثقل، لا من الحروب، بل من دروعنا. أثقل لا من السقوط، بل من خوذاتنا. نجرجر أنفسنا محمَّلين بكل ما أنقذنا لحظةً، ثمّ قيّدنا عمراً.

وفي الجهة الأخرى من حكمة حمزاتوف؛ الأبيات. تلك التي تُكتب مرّة، وتُردَّد العمر كلّه. الكلمة التي تأتي في لحظة صدق، في لحظة انكشاف، لا تموت. القصيدة الصادقة، النغمة الأولى التي تعزف على وتر القلب، لا تُنسى. ربما لا يكتب المرء بيتاً عظيماً كلّ يوم، لكنّ البيت الذي يُولد من رحم الألم أو الحبّ أو الحقيقة، يُرافقك مدى الحياة. كأنّ الكلمات التي نكتبها بدمنا، لا تُمحى بالحبر.

والمفارقة المؤلمة الجميلة، أن الكلمات أيضاً سلاح، لكنّها ليست سلاح الحرب، بل سلاح الذاكرة. ليست بندقية، بل مرآة. نحن لا نردّد الأبيات أو الكلمات العظيمة لأننا حفظناها، بل لأنها حفظتنا. عندما نضيع، نتذكّرها. عندما نتهشّم، نعيد قراءتها، لأنها تعيدنا إلى أنفسنا. البيت الذي كتبه شاعر في قرية بعيدة قبل قرن، قد يمسك بيدك اليوم وأنت تمشي في مدينة غريبة لا تعرفك ولا تعرفها.

حمزاتوف لم يكن يكتب عن الحرب وحدها، بل عن الإنسان في حربه اليومية. السلاح الذي نحمله هو ردّة فعل على الحياة. والأبيات التي نكتبها هي ردّة فعل على أنفسنا. كلّ واحد منا يحمل شيئاً لا يراه الآخرون. قد تراه ابتسامةً، وهو في الحقيقة قناع، قد تراه نجاحاً، وهو في حقيقته هروب. كلّنا نحمل ما أنقذنا، ولا نستطيع أن نلقيه بعد ذلك. نحمل دروعاً أرهقتنا، وننسى أن المعركة قد انتهت.

في الجانب الآخر، كلّنا أيضاً نبحث عن كلمات تُشبهنا، عن بيت شعر يفسّرنا أفضل ممّا نفهم أنفسنا، عن جملة نقرؤها فنشعر أنها كُتبت لنا نحن فقط. هنا تأتي قوة الأدب، وسحر اللغة. الكلمة التي لا تُنسى، تُغنيك عن معارك كثيرة. قد لا تشهر سيفك، لكنّك تشهر بيتاً، وقد لا تطلق رصاصة، لكنّك تهمس بكلمة فتهدم أو تبني.

ربّما علينا أن نتعلم كيف نضع أسلحتنا. أن نفهم أن النجاة لا تعني التسلّح الدائم، وأن الأمان لا يعني النسيان. كما علينا أن نحفظ الأبيات، لا لنردّدها فقط، بل لنعيشها. أن نكتب ما يستحقّ أن يبقى، وأن نترك ما لم يعد نافعاً. أن نحمل ما يحرّرنا، لا ما يقيّدنا.

هناك أشياء نُمسك بها مرّة، فلا تتركنا أبداً. وهناك كلمات نكتبها في لحظة، فتصبح صدى عمرٍ بأكمله.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows