
عربي
بين جدران فنادق مهترئة تمتدّ في أنحاء بريطانيا، تقيم عائلات لاجئة على وجبات باردة وميزانية لا تتجاوز عشرة جنيهات أسبوعيًا، فيما تتدفّق الأرباح إلى حسابات شركات خاصة وُلدت من رحم الأزمات، تتقدّمها شركة كليرسبرينغز ريدي هومز (Clearsprings Ready Homes)، التي حوّلت عقودها الحكومية إلى مصدر ثراء بمئات ملايين الجنيهات خلال أعوام قليلة.
خلف شعارات "إدارة اللجوء" التي ترفعها الحكومة، يتكشّف اقتصاد موازٍ يقوم على معادلة قاسية: كلّما طال الانتظار، تضخّمت الأرباح، وكلّما اشتدّت المعاناة اتّسعت الفجوة بين الكلفة والكرامة.
إنّه وجه آخر لما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الأزمات"، حيث تتحوّل الطوارئ الإنسانية إلى مشاريع مغلقة تدرّ أرباحًا على شركات محدودة النفوذ، مستفيدة من العقود الحكومية طويلة الأجل وسط غياب الرقابة والمنافسة.
أرباح من المأوى المؤقت
منذ عام 2019، جمعت شركة كليرسبرينغز ريدي هومز ما يقارب 187 مليون جنيه إسترليني (1 جنيه يعادل 1.34 دولار) من عقود وزارة الداخلية البريطانية، رغم سيل الانتقادات الموجّهة إلى ظروف الإقامة التي تديرها. فبينما بلغ عدد المقيمين في منشآتها نحو 30 ألف طالب لجوء، تصف شهاداتهم واقعًا بالغ القسوة، من طعامٍ لا يُؤكل وغرفٍ مكتظة ومراحيض مشتركة تفتقر إلى النظافة.
تقول زوي دكستر، مديرة قسم السكن والرعاية الاجتماعية في مؤسسة هيلين بامبر (Helen Bamber Foundation)، في حديث خاص لـ"العربي الجديد": "آلاف طالبي الحماية، بمن فيهم ناجون من الاتجار بالبشر والتعذيب، يُجبرون على العيش في فنادق متداعية تفتقر إلى النظافة والخصوصية، ويعتمدون على بدل أسبوعي لا يتجاوز 9.95 جنيهات، فيما يقضون شهورًا بل سنوات بانتظار قرارات اللجوء، حتى إنّ بعض الأطفال أمضوا معظم طفولتهم داخل غرف فنادق ضيّقة".
دكستر: "الشركات الربحية تجني ملايين الجنيهات من أموال دافعي الضرائب، بينما تُشرف على نظام سكني يُجرّد طالبي اللجوء من إنسانيتهم ويُعمّق أزماتهم النفسية"
وتضيف دكستر أنّ "الشركات الربحية تجني ملايين الجنيهات من أموال دافعي الضرائب، بينما تُشرف على نظام سكني يُجرّد طالبي اللجوء من إنسانيتهم ويُعمّق أزماتهم النفسية".
وتشير إلى أنّ دراسات المؤسسة أظهرت أنّ "المقيمين في فنادق اللجوء يعانون مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق مقارنة بمن يعيشون في مساكن التوزيع (Dispersal Accommodation)"، مؤكدة أنّ "هذه البيئات المغلقة تُولّد مشكلات جديدة كالاكتئاب الحاد والأفكار الانتحارية، وتؤثر سلبًا في الأطفال الذين يفتقرون إلى أماكن آمنة للّعب ويعانون من طعام رديء ومعاملة غير مهنية من موظفين غير مدرّبين".
وتوضح دكستر أنّ أحد أسباب استمرار الأزمة هو "الارتفاع الكبير في طلبات اللجوء المرفوضة، رغم أنّ كثيرًا منها يُلغى لاحقًا عند الاستئناف، ما أدّى إلى تراكم آلاف القضايا وبقاء أصحابها عالقين في مساكن مؤقتة لأشهر طويلة". وتؤكّد أنّ "الحل يبدأ بتحسين جودة القرارات الأولية والاستثمار في منظومة العدالة، لأن إدارة فعّالة وعادلة لملف اللجوء كفيلة بإنهاء الاعتماد على الفنادق والمراكز المؤقتة".
فشل إداري وخصخصة مربحة
يقول توم مارتن، مدير منظمة مدينة الملاذ في شيفيلد (City of Sanctuary Sheffield)، في ردّه على استفسارات "العربي الجديد"، إنّ "نظام الإيواء البريطاني لم يعد يؤدي وظيفته، إذ يُجبر طالبي اللجوء على العيش لفترات طويلة في أماكن مكتظة وغير آمنة، وبعضها لا يصلح حتى لاجتياز فحص هندسي واحد"، مضيفًا أنّ "لا أحد يجب أن يعيش في مبنى تتسرّب فيه المياه من المقابس الكهربائية أو تغطي العفن جدرانه أو تتشارك فيه الفئران والسكان المطبخ نفسه".
ويضيف مارتن أنّ "نظام الإيواء تحوّل إلى مصدر ربح ضخم لعدد محدود من الملاك الأثرياء والشركات، التي تُمنح عقودًا بملايين الجنيهات لتقديم خدمات متدنية الجودة، غالبًا من دون رقابة أو منافسة حقيقية"، ويرى أنّ "هذا النموذج يُكافئ الشركات الخاصة على عقود فاشلة من الأساس بينما تتفاقم التكاليف والمعاناة".
ويوضح مارتن أنّ "إصلاح النظام يبدأ بإعادته إلى السلطات المحلية لتكون أقرب إلى المجتمعات وأكثر خضوعًا للمساءلة"، ويقول إنّ المجالس البلدية والمنظمات غير الربحية تمتلك فهمًا أعمق لاحتياجات السكان.
إنفاق متضخّم دون مساءلة
تُظهر بيانات المكتب الوطني للتدقيق (National Audit Office) أن تكاليف عقود إيواء طالبي اللجوء ارتفعت من 4.5 مليارات جنيه إلى 15 مليار جنيه إسترليني، نتيجة الاعتماد المتزايد على الفنادق بدل المساكن الدائمة، وهو خيار أثبت أنه أكثر ربحية للشركات وأقل كفاءة للدولة.
في السياق، توضح ليلى حسين، مسؤولة المناصرة في منتدى اللاجئين والمهاجرين في إسكس ولندن (RAMFEL)، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، أنّ ما يجري في ملف إيواء طالبي اللجوء يعكس ما بات يُعرف بـ"اقتصاد اللجوء" في بريطانيا، حيث تتحول معاناة الفئات الأضعف إلى فرصة استثمارية مربحة للشركات الخاصة المتعاقدة مع الحكومة.
وتقول: "اللاجئون يدفعون ثمن نظام يُفترض أنه إنساني، لكنه في الواقع أصبح نموذجًا ربحيًا تتضاعف فيه الإيرادات كلما تفاقمت المعاناة. ومع ذلك، يتمّ تصوير طالبي اللجوء في الخطاب العام كعبء على الدولة، بينما الحقيقة أنّ الشركات هي المستفيد الأكبر من الإنفاق العام".
وتضيف حسين أنّ الشفافية شبه معدومة في هذا القطاع، إذ تحتكر ثلاث شركات، كليرسبرينغز (Clearsprings) وسيركو (Serco) وميرز (Mears)، عقود الإيواء منذ عام 2019، بموجب اتفاقيات حكومية تمتد لعشر سنوات وتبلغ قيمتها نحو 4 مليارات جنيه إسترليني.
وتلفت إلى أنّ "الإنفاق الفعلي تجاوز التقديرات الأولية بشكل هائل، حيث خصّصت الحكومة خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024 ما يقارب 1.7 مليار جنيه، منها 1.3 مليار ذهبت إلى تشغيل الفنادق وحدها، ما يعكس تضخّم التكاليف على حساب الكفاءة والجودة".
الشركات الثلاث حققت مجتمعة 380 مليون جنيه إسترليني من الأرباح بين عامي 2019 و2024، رغم سجلّها السابق المليء بالانتهاكات في إدارة مراكز احتجاز المهاجرين
وتشير حسين إلى أنّ هذه الشركات الثلاث حققت مجتمعة 380 مليون جنيه إسترليني من الأرباح بين عامي 2019 و2024، رغم سجلّها السابق المليء بالانتهاكات في إدارة مراكز احتجاز المهاجرين.
وتضيف: "رغم تغريم شركة سيركو بمليون جنيه عام 2019 لخرقها أحد العقود الحكومية، حصلت في العام نفسه على عقد جديد بقيمة 45 مليون جنيه لتشغيل برنامج فحوص وتتبع كورونا (Test and Trace)، ثم أُعيد منحها عقودًا ضخمة لإدارة مساكن اللجوء. إنها منظومة مغلقة تتبادل فيها الشركات العقود رغم إخفاقاتها المتكررة، دون محاسبة حقيقية أو مراجعة مستقلة".
وتنتقد حسين ما تصفه بـ"التضليل الحكومي" في ما يتعلق بعدد الفنادق المشغّلة، موضحةً أنّ حكومة حزب العمال أعلنت تقليصها من أكثر من 400 فندق إلى 200، لكن البيانات الفعلية تكشف فارقًا طفيفًا فقط: "عند تولّي الحكومة الجديدة السلطة في يوليو/تموز 2024 كان عدد الفنادق 213، وبعد عام كامل انخفض إلى 210 فقط، أي ثلاثة فنادق لا أكثر".
وتختم بالقول إنّ إعادة هيكلة نظام الإيواء تمثّل الخطوة الأهم نحو العدالة والكفاءة الاقتصادية، مشدّدةً على ضرورة "سحب هذا الملف من أيدي الشركات الخاصة وتوجيه الموارد إلى الإسكان المجتمعي عبر السلطات المحلية. يمكن إنشاء مراكز ترحيب (Welcome Hubs) تساعد طالبي اللجوء على التعرف إلى مجتمعاتهم وتشجع السكان على المشاركة في دعمهم".
نفي الاتهامات
لم تتلق "العربي الجديد" ردوداً من الشركات التي تدير عملية إسكان اللاجئين، باستثناء شركة ميرز (Mears) التي نفت الانتقادات الموجّهة إليها بشأن أوضاع طالبي اللجوء في المساكن التي تديرها، وردّ أندي سوفورد من قسم الاتصالات في الشركة على أسئلة "العربي الجديد"، قائلًا إنّ "متحدثًا باسم الشركة أوضح أنّ ميرز توفّر السكن والدعم لطالبي اللجوء بموجب عقود موقّعة مع وزارة الداخلية البريطانية، وتهدف إلى ضمان أن تكون المساكن آمنة وصالحة للعيش، وأن يُعامل جميع المقيمين بكرامة واحترام".
وأضاف أنّ "الشركة تعمل بشكل وثيق مع هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) والسلطات المحلية والمنظمات التطوعية لدعم رفاه المقيمين. ويضمّ كل موقع فندقي أو سكني تابع لميرز فريقًا من موظفي الدعم الميداني إلى جانب مسؤولين عن السلامة في كل منطقة، يتابعون الحالات يوميًا بالتنسيق مع هيئة الصحة الوطنية المختصّة بتقديم الرعاية الصحية، بما في ذلك خدمات الصحة النفسية".
لم تتلق "العربي الجديد" ردوداً من الشركات التي تدير عملية إسكان اللاجئين، باستثناء شركة ميرز (Mears) التي نفت الانتقادات الموجّهة إليها بشأن أوضاع طالبي اللجوء في المساكن التي تديرها
وأشار إلى أنّ "جميع المساكن التي تديرها الشركة معتمدة وتخضع لتفتيش دوري من وزارة الداخلية، كما تستقبل زيارات من المجالس المحلية والنواب والمنظمات التطوعية، وغالبًا ما تكون الملاحظات حول النظافة والجودة إيجابية".
وأضاف: "إن استطلاعات وزارة الداخلية الفصلية تُظهر مستويات رضا عامة تبلغ نحو 90% بين المقيمين في مساكن ميرز، الذين يعبّرون عن تقديرهم لجودة الإقامة والدعم الذي يقدّمه موظفو الشركة".
شركات اللجوء تعيد تموضعها
في وقت تعلن فيه الحكومة نيتها إنهاء استخدام فنادق اللجوء بحلول عام 2029، بدأت الشركات الكبرى المستفيدة من هذه العقود، مثل سيركو وميرز، بإعادة هيكلة أنشطتها. فبحسب تقرير "فاينانشال تايمز" الصادر في أغسطس/آب 2025، تراجعت إيرادات ميرز من قطاع الإسكان بنحو 20%، بينما تحدّثت سيركو عن تقلّص في عقودها الخاصة بالهجرة والإقامة، متجهة إلى تعزيز أعمالها الدفاعية التي باتت تمثّل أكثر من 40% من إيراداتها بعد صفقة استحواذ بقيمة 327 مليون دولار.
تلك التحوّلات، وفق خبراء، لا تعني انسحاب هذه الشركات من المشهد، بل انتقالها إلى قطاعات أخرى من اقتصاد الأزمات، لتبقى ضمن دائرة العقود الحكومية المربحة.
ورغم تراجع بعض العقود، تواصل كليرسبرينغز ريدي هومز تحقيق أرباح متصاعدة وسط تساؤلات حول الشفافية والرقابة على المال العام. فقد كشف موقع ذا تريل بلايزر (The Trailblazer) أن الشركة حققت نحو 180 مليون جنيه منذ عام 2019، بينها تحويل مالي مثير للريبة بلغ 17 مليون جنيه إلى شركة مسجّلة خارج البلاد.
وفي ظل الجدل حول كلفة إيواء اللاجئين، أكدت رويترز في تقريرها الصادر في يونيو/حزيران 2025 أن الحكومة البريطانية أنفقت نحو 108 ملايين جنيه شهريًا خلال العام المالي 2024/2025 على إسكان طالبي اللجوء، لا مليارًا كما زعمت بعض منشورات التواصل الاجتماعي.
ورغم أن الرقم أقل من الشائعات، فإنه لا يزال عبئًا ثقيلًا على المال العام، في ظل استمرار تمديد العقود الخاصة. وبينما يعيش اللاجئون في غرف بلا نوافذ ووجبات باردة، تبقى الأرباح المتكدسة في حسابات الشركات عنوانًا صارخًا لسؤال واحد: من المستفيد الحقيقي من أزمات اللجوء في بريطانيا؟
