
عربي
حتى وقت قريب، كان طبق الكشري يمثل رمزاً للأكلات الشعبية في مصر، وكان حاضراً دائماً على موائد البسطاء والفقراء والطلاب والعمال، وتنتشر مطاعمه الصغيرة وعربات بيعه في الشوارع، كونه وجبة لا يختلف عليها المصريون، لكن مع تصاعد الغلاء خلال السنوات الأخيرة، تحول الطبق الشعبي من "وجبة الفقراء" إلى نوع من الرفاهية التي يصعب على كثيرين تحمّل كلفتها، سواء عند شرائها جاهزة من المطاعم، أو حتى عند إعدادها منزلياً.
وفي بلد اعتاد أن يفاخر بالكشري بوصفه طبقاً وطنياً، يجد كثير من المصريين أنفسهم مضطرين إلى تقليص استهلاك هذه الوجبة، أو استبدال بعض مكوناتها بأخرى أقل كلفة. ويتكون الكشري في الأساس من الأرز والعدس والمعكرونة والشعيرية والبصل المقلي والحمص المسلوق، مع كمية وافرة من صلصة الطماطم، ويمكن أن يضاف إليه مكونات أخرى من بينها الكبدة، أو الدجاج، ما يجعله وجبة مشبعة دسمة تضم الكثير من المكونات.
في جولة على مطاعم الكشري بالعاصمة القاهرة، تكشف الأرقام حجم المفارقة، ففي مطاعم وسط البلد، يراوح سعر الوجبة الفردية حالياً بين 23 إلى 45 جنيهاً، بينما قبل سنوات قليلة كان سعر الوجبة نفسها لا يتعدى خمسة جنيهات، في حين يتجاوز سعر الأنواع الخاصة أو العائلية 90 جنيهاً (الدولار يساوي 48 جنيهاً تقريباً).
وتبرز المفارقة بشكل أكثر وضوحاً عند النظر إلى كلفة وجبة الكشري مقارنة بقيمة الدخل الشهري، فبينما يبلغ الحد الأدنى المعلن للأجور 7 آلاف جنيه شهرياً، يصل متوسط سعر علبة الكشري الفردية في المطاعم إلى 37.5 جنيهاً، ومع افتراض تناول أسرة مكونة من أربعة أفراد هذه الوجبة الشعبية مرتين أسبوعياً، قد تتجاوز التكلفة الشهرية 1000 جنيه، أي ما يقارب خُمس الحد الأدنى للأجور.
ولا يقتصر التحول في الأسعار على الكشري الجاهز، بل يمتد إلى مكوناته الأساسية حال الرغبة في تجهيزه منزلياً، فوفق أسعار سبتمبر/أيلول الماضي، وصل سعر كيلو الأرز إلى 31 جنيهاً في المتوسط، والعدس إلى 66 جنيهاً، والمعكرونة إلى 27.5 جنيهاً، والشعيرية إلى 35 جنيهاً، بينما ارتفع سعر البصل إلى 13 جنيهاً، والطماطم إلى 14 جنيهاً، والحمص إلى أكثر من 50 جنيهاً للكيلو.
وعند جمع أسعار هذه المكونات الضرورية لإعداد وجبة عائلية، يتضح أن كلفة الطبق المنزلي لم تعد منخفضة كما كانت في السابق، بل قد تقترب من سعر الوجبة الجاهزة التي تُشتَرى من المطاعم في بعض الأحيان. تقول ربة المنزل نعمة السيد: "أصبحنا نعد الكشري في البيت على فترات متباعدة، رغم أن جميع أفراد الأسرة يحبونه كثيراً، لكن إعداده يستغرق وقتاً ومجهوداً، كما أنه أصبح مكلفاً أيضاً".
ولم يعد الكشري خياراً اقتصادياً عند الأسر محدودة الدخل، بقدر ما أصبح عبئاً جديداً في قائمة النفقات اليومية. وتقول العاملة المنزلية آية حسن: "كنا نلجأ إلى الكشري كوجبة سريعة ورخيصة تكفينا، واليوم أصبحت كلفة الطبق للعائلة تصل إلى مائة جنيه إذا أعددناه في البيت".
ويعكس هذا التحول جانباً إنسانياً عميقاً في الأزمة المعيشية التي تمر بها مصر، فتراجع القدرة الشرائية جعل أبسط الأكلات الشعبية التي كانت ملاذاً للفقراء والمهمشين تتحول إلى رفاهية، ولم يعد الكشري متاحاً للجميع، بل أصبح مثالاً على كيف يمكن للتضخم وارتفاع الأسعار أن يغيّرا الثقافة الغذائية، ويضربا في الصميم صورة الوجبة الشعبية.
ورغم القرارات الحكومية المتكررة برفع الحد الأدنى للأجور، وآخرها قرار رئيس مجلس الوزراء في سنة 2025، والذي نصّ على أن يبدأ الأجر الشهري من 7100 جنيه للدرجة السادسة وصولًا إلى 13,500 جنيه للدرجة الممتازة، يواجه التطبيق العملي لهذه القرارات عراقيلَ واسعةً. ففي كثير من القطاعات، ولا سيما القطاع الخاص وقطاع الأعمال العام، يتم التحايل على القرار أو تجاهله تماماً، في ظل غياب أدوات رقابية صارمة، ما يحرم شرائح كبيرة من العمال من الاستفادة الفعلية من الحد الأدنى للأجور، في حين تتصاعد تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق.
وفي شهادات وثقتها "دار الخدمات النقابية والعمالية"، وهي مؤسسة مدنية غير حكومية، أكد عدد من العمال أن ما يحصلون عليه فعلياً بعد الاستقطاعات الضريبية والتأمينية التي تصل إلى نحو 33% من قيمة الأجر، لا يقترب حتى من المبلغ المعلن، وأن الكثير من العاملين، رغم سنوات الخدمة الطويلة، لا يتجاوز دخلهم ستة آلاف جنيه شهرياً، وهذا الرقم لا يتماشى مع موجات التضخم المتسارعة، وبذلك يصبح الحد الأدنى للأجور المعلن نظرياً غير قادر على تلبية أبسط الاحتياجات اليومية للأسر المصرية، ما يدفع قطاعات واسعة من الطبقة العاملة إلى عتبة الفقر.
وتشير تقديرات قانونية ونقابية إلى أن الحد الأدنى للأجور لا يعكس أكثر من "حد الكفاف"، إذ لا يكاد يغطي الاحتياجات الأساسية للعامل والموظف المبتدئ، غير أن المشكلة لا تكمن فقط في ضعف الالتزام في تطبيق القرار، بل تمتد إلى غياب آليات واضحة للتدرج الوظيفي، الأمر الذي يفاقم التفاوتات بين العاملين، ويُعمّق فجوات العدالة الاجتماعية داخل بيئة العمل.
