"بابا والقذافي": بحث وثائقي يُنهي تاريخاً من غياب
عربي
منذ 3 أيام
مشاركة
  تجمع جيهان الكيخيا المُتفرّق من حياة والدها الغائب في وثائقيّ، تجعله وسيلة لاستعادة علاقة منقطعة بأب، بهتت صورته في ذاكرتها بفعل الزمن، ولم يبقَ أمامها سوى محاولة ترتيب حضوره، عبر ما توفّر لها من وثائق وصُور وحكايات عنه، وعن غيابه الغامض منذ بلوغها ستة أعوام. حكاية غيابه عنونتها بـ"بابا والقذافي" (2025). كلاهما لم يعد لهما وجود في الحياة. لكن، ما يهمها استعادة "بابا" بفعل سينمائي، ربما يُنهي هاجساً داخلياً، يؤرق حياتها وحياة عائلتها، ولن يغدو ماضياً إلا بمعرفة سرّ غيابه وكيفية حصوله. تعرف الطفلة جيهان من أمها، بهاء العمري (سورية الأصل)، أنّ والدها السياسي منصور رشيد الكيخيا، المعارض للقذافي، اختفى عام 1993، أثناء حضوره مؤتمراً لحقوق الإنسان في القاهرة. من تلك اللحظة، غاب له كلَّ أثر. مناشدات الزوجة للكشف عن مصيره لم تتوقّف. تعرف جيهان هذا من تسجيلات (فيديو منزلي)، كانت والدتها تلقّنها فيها كلاماً مؤثراً، تناشد به الرئيس معمر القذافي الكشف عما يعرفه عن اختفاء والدها، وزير خارجيته الأسبق، والمُقرّب منه في المراحل الأولى من حكمه. استعادة تلك التسجيلات ـ وبعض آخر شحيح، يظهر فيها للحظات عابرة بصحبتها وصحبة عائلتها ـ لن تُكمِل ترتيب صورة رجل غاب عن الوجود منذ عقود. بمقابلتها سياسيين وأصدقاء له، تحاول جمع المتفرّق من صورته. بتوليفها سينمائياً (أليساندرو دورديني وكلوي لامبورن ونيكول هالوفا)، تتكشّف ملامح رجل أراد بقناعة المشاركة في بناء دولة عربية قومية، تصلح أنْ تكون مثالاً في المنطقة. صدّق وعود رفيقه القذافي، فراح يعمل بجدّ وإخلاص، بوصفه وزيراً للخارجية وممثلاً لدولته في المنابر الأممية، ليُحقّق حلماً سياسياً طموحاً. لم يدم ذلك طويلاً. نهج رئيسه، وأسلوبه الدموي والأهوج في الحكم، ينقلانه إلى موقع المعارضة، والخوف من الانتقام يُرَحّله بعيداً عن بلدٍ، أراد أن يراه مثالاً.     على حيوية الزوجة وشجاعتها، يتأسّس أكثر السرد الحكائي للوثائقي. ذاكرتها المتوقّدة، ورغبتها في الوصول إلى الحقيقة، يمنحان الوثائقي هذا ديناميكية مطلوبة، ويوفّران له مساحة درامية تسمح له الجمع بين الخاص والعام. حكايتها مع منصور الكيخيا تُجلي جانباً من تكوينهما. الشابة السورية، المترعرعة في بيت سياسي مُعارِض، تنفصل عن زوجها الأول، وترحل عن البلد رفقة طفليها. يتزوّجها السياسي الليبي، المنفتح على ثقافات ومعارف شتى، ويمضي حياة أسرية مريحة معها. زوجة تتفهّم مهامه السياسية، وتُعينه على إنجازها. تمسّكها بالبحث عن مصيره يقودها إلى دروب متقاطعة ومختلفة الوجهات، أشدّها دراماتيكية مقابلتها الرئيس الليبي وجهاً لوجه. في خيمته، يجري حوار مبطّن المعاني بينهما، ينفي فيه "الزعيم" علمه بما جرى، فيما تُوصل الزوجة إليه عنادها وتمسّكها بما شرعت العمل عليه. يقودها البحث إلى ليبيا ثانية، بصحبة أبنائها هذه المرة. يُعيد الوثائقي من ليبيا ترتيب أزمنة سياسية، كان الكيخيا فعّالاً ومساهماً فيها. تتعرّف جيهان، لأول مرة، شدّة صلة والدها بتاريخ بلده وتحوّلاته السياسية. زياراتها مع والدتها تُبقي صلة لها بالمكان، الذي حلم والدها يوماً أنْ يكون له ولهم فيه متّسع لعيشٍ رغيد. اللافت للانتباه في مسار بحث الوثائقي في تجربة القذافي، كما ترويها وثائق وشهادات سياسيين تجمّعت عند شروع صانعته بالعمل عليه منذ نحو تسع سنوات، شدّة تقاربها مع تجارب رؤساء عرب آخرين، وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية، وادّعوا بعد سيطرتهم المطلقة على الحكم نيّتهم في بناء دولة جديدة لا تشبه ما كانت عليه سابقاتها. مسار صعودهم وحكمهم الديكتاتوري، والانقلاب على حلفائهم، حتى نهاياتهم الدراماتيكية، شديدة التشابه، إلى درجة توحي للذهن كأنّ قوة غامضة خفية كتبت مساراتهم السياسية ومآلات حياتهم بالقلم نفسه. نهاية القذافي فتحت درباً لمعرفة مصير الغائب. قرب أحد قصوره، وُجدت جثّته مُجمّدة في ثلاجة. بدفنه، وملامسة ولده لوجهه مودّعاً، تنتهي مرحلة بحث طالت عقوداً، كذب فيها الرئيس على أهله. لكن التاريخ ينصفهم في النهاية، ويتيح لوثائقي ابنته وضع خاتمة مؤثّرة له، بها تكمل مُنجزاً لا يدّعي أكثر مما يملك، لكنّه يؤكد مرة أخرى أنّ السينما الوثائقية، وبعض أفلامها كـ"بابا والقذافي"، مهما بدت اشتغالاتها الجمالية بسيطة، فيها ما يستحقّ أنْ يُحكى ويُسرَد.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية