
عربي
يتحدّث ترامب عن غزّة وكأنّها طفلته بالتبني، لا أهل لها ولا أقارب، وجدها مُلقاةً على قارعة الطريق جريحةً، فقرّر أن تكون شأناً يخصّه وحده. ليس هذا مُستغرباً من شخص بهذه الصفات التي تُصوّر له أنه رئيس الكرة الأرضية. أما الذي يدعو إلى الاستغراب، فهو التسليم بولاية ترامب ووصايته على غزّة من أقرب الناس لها، الأشقاء والإخوة والجيران، بلا استثناء، سُعداء بسلطة الرئيس الأميركي على غزّة، من خلال هذا الاختراع غير المسبوق في التاريخ الذي سمّاه "مجلس السلام" برئاسته وعضوية من يختاره من الحكام العرب وتجّار الحروب المُتقاعدين، إذ قرّر أن يشرف هذا المجلس على "لجنة فلسطينية مؤقتة من التكنوقراط غير السياسيين"، ستكون مسؤولة عن إدارة الشؤون اليومية والخدمات العامة في غزّة تحت سلطة المجلس الذي حدّد ترامب أهدافه في إدارة المرحلة الانتقالية في غزّة، وتمويل إعادة البناء والإعمار، مع إمكانية إنشاء منطقة اقتصادية خاصة.
لا يزال توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق وأحد مهندسي عملية تدمير العراق الاسم الأكثر ترديداً لرئاسة المجلس، تحت قيادة رئيسه الأعلى دونالد ترامب بالطبع، الذي أبدى عبد الفتاح السيسي في غمرة النشوة بلقاء ترامب استعداده للانضمام إليه، وهو يعلن أنه موجود ما دام الرئيس الأميركي موجود.
يقول ترامب بتأفّف حين سُئل عن مطلب حل الدولتين: "أنا هنا لإعادة إعمار غزّة وليس الكلام عن حل الدولتين أو الدولة الواحدة، هناك من يحبّ الدولتين فيما يحب آخرون الدولة الوحيدة"، وهذا مربط الفرس، حيث يعزل الرئيس الأميركي مسألة حكم غزّة وإعمارها عن القضية الأم، قضية فلسطين المحتلة، فليس ثمّة ما يُشير في خطّة ترامب إلى إسرائيل بوصفها احتلالاً، ولا يوجد فيها ما يربط قضية غزّة بقضية فلسطين، وكأنّه اكتشف مكاناً اسمه غزّة مع العدوان الإسرائيلي عليه قبل عامين فقط، وغزّة تعني إعادة إعمار ومساعدات إنسانية، وكأنّها مقطوعة الصلة بالقضية التي كانت تُسمّى "قضية العرب المركزية"، فصارت تُسمّى "خطّة ترامب المرحلية"! التي باتت محوريةً لدى شركائه العرب في مشروع غزّة.
في إعادة الإعمار، حسم ترامب الأمر، إذ سيتولى الإنفاق على بناء القطاع المدمّر بالكامل الحكومات العربية الغنية، من دون أن نسمع صوتاً عربيّاً واحداً يُطالب بأن يدفع الاحتلال كلفة بناء ما دمّره، وكأنّ إسرائيل طفل العرب المدلّل يدمّر ويقتل ويحرق وينسف البيوت ويقتلع أشجار الزيتون ويفقأ عيون الكبار والصغار، ثم يأتي ترامب ويعطي الإشارة للدول العربية الثرية بلا حدود كما يصفها! لكي تُعيد بناء ما أفسده الصهيوني المدلّل، لا كلام عن تعويضاتٍ أو عقوباتٍ أو حتى توجيه الاتهام لمُرتكب كلّ هذه الجرائم، بل مكافأة في صورة مؤتمر دولي فاخر للسلام، لا تُذكر فيه إسرائيل بوصفها ارتكبت جريمة.
في مقابل الحضور الطاغي لما يُسمّى "مجلس سلام ترامب" في مسألة غزّة، ثمّة غيابٌ مزلزلٌ لكيان عربي جامع اسمه جامعة الدول العربية عن المسألة نفسها، إذ انعقد مؤتمر شرم الشيخ وانفضّ من دون أن يأتي ذكر الجامعة في جملة واحدة، ولك أن تتخيّل أن يصبح توني بلير حاكماً مؤقّتاً على غزّة، وتحت رئاسته أعضاء عرب بينهم حُكّام حاليون، وجميعهم تحت سلطة دونالد ترامب العليا، في إقصاء كامل لجامعة الدول العربية عن المشهد، تماماً كما توافقوا على تغييب "حماس" وحركات المقاومة الفلسطينية عن شؤون قطاع غزّة، بل والطلب منهم تسليم أسلحتهم والخروج تماماً من المعادلة.
هذا يفسّر هذا التركيز الإعلامي والدبلوماسي من "عرب ترامب" على محاولة الفصل بين المقاومة و"شعب غزّة" هكذا يسمونه، وليس الشعب الفلسطيني في غزّة، في عملية تشبه الفصل بين مسألة غزّة والقضية الأم والأشمل.
هذه المقاربة لا تختلف كثيرًا عن مقاربة الخطاب الإسرائيلي، السياسي والإعلامي، والحال كذلك لا يفرّق بين شعب ومقاومته إلا صهيوني أو مأفون، فليس في غزّة جيش، أو قوات نظامية، بل فيها شعب يصنع مقاومته، كما في كلّ تاريخ الأمم التي كافحت احتلالاً أو استعماراً، وكلّما تصوّر المحتل أنه قضى على المقاومة نبتت من جديد وفاجأت الجميع، ذلك أنّ المقاومة من الشعب، تبقى وتتجدّد ما بقي الشعب.

أخبار ذات صلة.

الشرع وزيارة الضرورة
العربي الجديد
منذ 25 دقيقة