
عربي
يؤمن الروائي التونسي شكري المبخوت (1962) بأن الزعيم الحبيب بورقيبة مؤسس تونس الحديثة هو الوحيد الذي كتب سيرة كبرى فردية وجمعية في البلاد. فقد بنى صورة بلاده من خلال ذاته، وصاغ سردية ظلت الأقوى حتى بعد 2011.
أما من تلاه، فلم يمتلك القوة الرمزية نفسها، فبقيت سردية بورقيبة تطغى بحضورها وسحرها وخرافاتها، حتى محمد البوعزيزي، رغم القوة الرمزية في قصته لم تتحول إلى معنى جامع للتونسيين، لأن تفاصيلها بقيت محل خلاف على حد قوله.
أينما جال الحوار في الجهات مع المبخوت، ضيف ندوة "حديث الألف" الشهرية التي نظمتها فضاءات ميديا في مكتبة "ألف" بالدوحة، أول أمس الأربعاء، ظلت السيرة مدار الحديث مباشرة، حتى إن فكرة الندوة التي تديرها الكاتبة هالة كوثراني وتقوم على "حكاية الحكاية" وجدت في المبخوت بختها السعيد.
يجيب المبخوت عن سؤال السيرة بوصفه أحد العارفين نظرياً في هذا السياق الثقافي السيري، وبوصفه أيضاً منتجاً إبداعياً سردياً عبر خمس روايات ستكون السيرة لعبة الراوي، السيرة المقنعة التي تكشف "فضائل ومخازي" الذات كما يصف على لسانه وعلى ألسنة آخرين يخلقهم.
يأتي انجذاب الكاتب إلى السيرة لا من باب الأدب وحده، بل من الوقوف أمام مفهوم الإنسان الفرد، وهو مفهوم حديث ولد مع اكتشاف الإنسان بعده كائناً مستقلاً، مثلما فعل طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد أمين حين كتبوا ذواتهم مرآةً لمفهوم جديد للوجود الفردي.
وعليه، فإن النظر إلى كلّ هذه الروايات الخمس منذ 2014 حتى 2022، يكون من باب أولى محاولة ترتيب الفوضى الداخلية، ليس فقط سرد قصص للتسلية، بل محاولة لوضع شكل للفكر المبعثر، واقتراح وجود يقوم على معرفة الواقع وإعادة تكوينه روائياً، من دون أن يكون أحد بطلاً إيجابياً كما في الواقعية الاشتراكية، إنما قادم كما هو بثياب عمله أو عارياً.
للكاتب هذه الروايات: "الطلياني" 2014، و"باغندا" 2016، و"مرآة الخاسر" 2019، و"السيرة العطرة للزعيم" 2020، و"السيد العميد في قلعته" 2022، وبينها مجموعة قصصية "السيدة الرئيسة" 2015، وكتاب قصصي للأطفال بعنوان "مدينة الناجحين" صدر في 2019.
غير أن المبخوت وهو أستاذ الجامعة لسنوات طويلة يترك لنا هذه العناوين عتبة معتبرة لدخول المغامرة الروائية. ففي عام 1992 أصدر باكورة هذا المبحث السيري "سيرة الغائب، سيرة الآتي" (1992) عن السيرة الذاتية في كتاب "لأيام" لطه حسين، أي عن لحظة التأسيس الكبرى للذات العربية الحديثة. ثم في كتاب "الزعيم وظلاله: السيرة الذاتية في تونس" (2016)، يوسّع المبخوت النظر من الفرد إلى الجماعة، ليبحث كيف تشتبك السيرة مع التمثيلات السياسية عبر الزعيم، والحزب، والأمة، والصورة الإعلامية. وأخيراً في "أحفاد سارق النار… في السيرة الذاتية الفكرية" (2016 أيضاً) يتناول السيرة الفكرية الحديثة عند مثقفين عرب، حيث تصبح الكتابة الذاتية أداة لتبرير الفكرة أو تفكيكها.
الانجذاب إلى السيرة لا بوصفها حكاية، بل مرآة للإنسان الفرد
إذن حين كتب ضيف "ألف" روايته "الطلياني" عام 2014، كان مستوعباً كل هذا الحقل تنظيراً، وهو بكل أريحية ظل يعتبر الروايات مختبراً تطبيقياً للسيرة الذاتية الجمعية، حتى بدت خماسية توقفت عند عام 2022، لأنه لا يريد أن تتحول إلى "مسلسل مكسيكي" قال مداعباً. لا بد من "الطلياني" دائماً، فهي التي أكسبته الشهرة بعد فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2015، وباتت الإشارة إليه متلازمة مع عنوان الرواية البكر.
وهي عند الكاتب سيرة جيل وُلد بعد الاستقلال، عاش أحلام الدولة الحديثة واصطدم بخيباتها. تدور حول عبد الناصر، الطالب اليساري في الجامعة التونسية خلال الثمانينيات، وهو جيل المبخوت نفسه، عاش مثله صدمة انهيار اليسار وصعود الإسلاميين.
كل هذا السياق هو بالضبط الذي تكونت فيه تجربة المبخوت الأكاديمية والفكرية. وعليه، تبدو الرواية استعادة لزمن التكوين السياسي والأيديولوجي الذي مرّ به الكاتب، لكنها تستبدل الأنا بالـ"هو" كي تتيح مسافة حرة على نحو ما نقدية وتأملية.
في "باغندا"، رواية تقوم على فكرة تحقيق صحافي بشأن لاعب كرة القدم المشهور باغندا الذي اختفى، من خلال هذا التحقيق، تتقاطع مجالات عدة بين الرياضة، والإعلام، والسياسة، والمال، والفساد. هي باختصار على لسانه "سوسيولوجيا كرة القدم"، استعار فيها ملعب كرة قدم ليتحدث عن الليبرالية المتوحشة.
ثم تأتي "مرآة الخاسر" لتقدم الشخصية وقد بلغت نضجاً رمادياً، كأنها طور لاحق من عمر الطلياني، حيث المثقف مُثقل بالتجارب، ومتعب من الالتزام القديم، يراقب اهتراء العالم. هي "خسارات جميلة"، والطريق الذي نسير فيه أهم من النقطة التي سنصل إليها، كما يمضي.
أبطاله أنداده أحياناً وضحاياه. هكذا يزعم، وعلينا أن نصدق الروائي، ما دمنا دخلنا في عقد دخول عالمه الخيالي، فهو ينبغي أن يقرر المصائر ومن ثم نواصل نحن السير أو نخرج من اللعبة.
يقول الكاتب معترفاً لأول مرّة إنه قرر التخلص من شخصية زينة في رواية "الطلياني". كانت بالغة الشعور بحريتها حد التمرد. وعلى نحو ذكوري قرر الروائي أن يخرجها من المنظومة التي يديرها هنا بتسفيرها إلى باريس وتركها لضياع أبدي. هذا البوح، بعضه فكاهي على لسان كاتب متمرن على الكلام، ثم الحكي لمجموعة مستمعين، ولا بد أن ينتبه دائماً ويأتي باحتراسات حتى لا يفهم أحد ما يقوله خطأ.
يبدو الكاتب مسكوناً بالحرية الفردية. ومصير الشخصية النسائية تداعيات الأنا أمام عيوننا وعيوننا مرايا. يقول هنا إن السؤال ليس مبتذلاً ولا بد أن يبقى صامداً حين يواجه بمقولات الحقوق العامة مقابل حريات أو مجرد حريات فردية. عنده بكل وضوح إن الأصل المكين لجميع الحريات هو الفردية.
في شأن آخر من طبقات السرد، تحدّث عن تونس في التاريخ، لافتاً إلى أن لدى المؤرخ المحترف عبئاً في سؤال من أين نبدأ؟ ولعل هذه المشكلة كما عقب عديد من الحاضرين هي عربية في العموم. قال المبخوت إن سؤال من أين بدأنا ينبغي له استيعاب كل الطبقات التاريخية، في بلد كان غير عربي ثم صار عربياً مسلماً.
أخيراً، للكاتب الذي كان عايش وانخرط في موجات اليساريين إبان السبعينيات والثمانينيات أن يدير عالمه بما تيسر له من أدوات، لكنه حين يصل إلى رواية "الجيل زد" الذي ولد في أواخر تسعينيات القرن الماضي، لا يتردد في القول إنه جيل سيصنع كتّابه وكاتباته. "أن تعرف مجتمعك وتكتب، أو لتصمت. إن كل ما كتبته أعرفه بدقة". هذه عبارة الختام لسير عرفنا منها ما عرفنا، وسير قادمة في ظهر الغيب، تكتبها عنا سلالة روائية أخرى.
