عربي
نزحت إلى مخيم لاجئين، صرت أمتلك فيه خيمةً وطريقاً إلى السوق مليئاً بالأشجار والخيام المُرهقة والأطفال الذين لا يدركون أنّ هناك حياةً أرقّ من الركض خلف خزانات المياه وتكيات الطعام. ورغم أنّ لي بيتاً في الشمال لا يزال مسكوناً بالحياة والحنان والعائلة، لكن وحشاً قرّر أن أكون هنا.
لم يعرف أنّ المخيّم صبيّةٌ ملؤها الوضوح والرشاقة، أغوتني بعناق شهيٍ وشفاهٍ رقيقة ومرّرت لأصابعي رسالةً عن اسمها، كلّها قبلات.
من كان سيصدّق أنني سأقع في حبّ مخيم، وأنّ اليوم الذي لا يمرّ من دون المرور في سوقه وشوارعه لا ينبغي أن يكون محسوباً في عداد العمر. من كان سيصدق أنّ "الفاروق" سيكون بدايةً لأجمل ساعاتٍ أعيشها في اليوم، وأنّ البسطات العشوائية التي يتذمّر الناس منها ستكون الشيء الوحيد في يومي القادر على تسكين جراحي، وأنّ ضجة السوق أرقّ على قلبي من الصمت والسكون، وأنّ مفترق "لِزهور" نال من حياتي ساعاتٍ وأنا أحدّق في الكادحين، الفاقدين، المُتعبين، الصغار والكبار، الصبايا، الفقراء، النازحين، الحزانى، التائهين، المُتعبين وأنا.
ضجة السوق في المخيّم أرقّ على قلبي من الصمت والسكون
إنني لا أعرف أيّ واحد منهم أنا. ففي وجهي قبائل لا تعرف طريقاً إلى الفرح، تبكي من دون دموع وتفرح من دون أن يلحظها أحد.
أعيش في أرض زراعية، أهلها يوقظون العصافير كلّ صباح، يسحبون أوقاتهم بالفؤوس والمناجل، يحثّون خطاهم إلى الشمس وعرق الأرض، يطوّعون أيّامهم عنوةً، صاغرةً تذهب إليهم وتعيش.
نزحت إلى مخيّم لاجئين، كانت أيّامي الأولى فيه لا تزال صعبة وكريهة، إذ تهت مرةً في الليل عن طريق الخيمة وصار قلبي يرتجف وفهمت بعدئذٍ أنّ المخيّمات من فرط ما تحتويه من خيبة وانتظار تصير صبيةً، صوتها كمنجاتٌ وأغانٍ، خصرها حقول وبيارات، وصدرها ملهوف وحارّ.
المخيّمات من فرط ما تحتويه من خيبة وانتظار تصير صبيةً، صوتها كمنجاتٌ وأغانٍ، خصرها حقول وبيارات
أنا عندما تهت كنت أمشي بين الكلاب الجائعة، مُترقّباً اللحظة التي أصير فيها سائغاً بين أنيابهم وهذا لم يحصل. فالعاشقات يحفظن الود ويطوّقن أحبابهن، وقتها عرفت أنني لم أقع في حبّ المخيّم فحسب، بل وهناك من يحبّني غير أمي، أنّني قابلٌ للحب.
وقعت في غرام مخيّم لاجئين وإني لا أفهم هل لـ"غزة" علاقة بالأمر. وإن كنت في سوق المخيّم لا أزال قادراً على رؤية "عمر المختار" وسوق "الرمال" وشارع "الوحدة"، لكنّ شيئاً فيّ عاجز عن تصديق أنني في "عمر المختار" وسوق "الرمال" وشارع "الوحدة" لأنّه لا طريق في سوق المخيّم ينتهي عند عتبة البيت.
لقد كنت لتوي قد حفظت شوارعكِ يا غزّة عندما جاءتكِ الغيلان والوحوش. كنت لتوي قد عرفت أنكِ جميلةٌ، وولود، لا تهبين اليأس حجارةً منكِ، ولا تنال منك الأحزان، لكنها قدرةُ الوحوش على قنص الحياة أينما كانت وبأيّ شكلٍ أتت.
لا طريق في سوق المخيّم ينتهي عند عتبة البيت
إنني يا غزة، ولو كنت مشغولاً في عشق هذا المخيّم، فإنّ ذلك لأنني أرى فيه شيئاً منكِ: شوارعكِ الحنونة، أسواقك البهية، وأشجارك التي تُطعمني الفرح والهناء. وإنّك أيّها المخيّم (وليد نكبتنا الكبيرة) لا تزال تصعد إلى قلبي، تطوّقني، وتنجيني من غدرات الجنود ودباباتهم في الشمال، وإني لا أزال مديناً لك برقة أعطيتني إياها في زمان القسوة والخذلان.
نزحت إلى مخيم لاجئين، صرت أمتلك فيه خيمةً وطريقاً إلى السوق، مليئاً بالأشجار والخيام المرهقة. ورغم أنّ لي بيتاً في الشمال لا يزال مسكونا بالحياة والحنان والعائلة، لكن وحشاً قرّر أن أكون هنا، لم يعرف أنّ المخيّم صبيةٌ ملؤها الوضوح والرشاقة، أغوتني بعناق شهيٍ وشفاهٍ رقيقة، ومرّرت لأصابعي رسالةً عن اسمها، كلّها قبلات.
وقعت في غرام مخيم لاجئين، وقعت في غرام "النصيرات".