مع بدء سريان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل صباح الثلاثاء الماضي، أخذت الحياة تعود تدريجياً إلى مدينة طهران التي كانت محط التركيز الأعنف للعدوان الإسرائيلي مقارنة بسائر المدن. وعلى الرغم من هيمنة خطاب "النصر على إسرائيل" في وسائل الإعلام الإيرانية وما يصدر عن كبار القادة والمسؤولين من بيانات وتصريحات، فضلاً عن الحديث الرسمي عن بدء إعادة إعمار ما تهدم والدعوة للاستفادة من "وحدة غير مسبوقة" تشكّلت في مواجهة العدوان، فإن ذلك كله لم يبدّد مشاعر الحزن والغضب لدى كثير من الإيرانيين حيال ما تعرضت له سماء عاصمتهم من انتهاك واستهداف مركّز. وتبقى تساؤلات ملحّة تدور في أذهان المواطنين حول ما جرى وما قد يحدث في المستقبل، وهل وضعت الحرب أوزارها بالفعل، أم إنها ستستأنف؟ وتتفاوت طبيعة هذه التساؤلات والهواجس بين أحياء طهران؛ إذ يختلف صداها في الشمال الغني للعاصمة عنه في وسط المدينة وشرقها وغربها حيث تقطن الطبقات المتوسطة، وصولاً إلى الجنوب الذي يضم شرائح أكثر شعبية.
الخروج القسري من طهران
في الأسبوعين الماضيين، شهدت طهران خروجاً قسرياً ثم عودة لم يعهدها سكانها من قبل، على الأقل في تاريخها المعاصر. حتى وقت قريب، وقبيل بدء العدوان الإسرائيلي، كان الأهالي يترقبون أي عطلة أو فرصة للهروب من صخب العاصمة وزحامها المرهق. لكن بعدما غادرها نحو ستة ملايين من مجموع سكانها البالغ 14 مليون نسمة خلال الأيام الأولى للهجوم، خصوصاً عقب صدور إنذارات إسرائيلية بإخلاء بعض مناطقها وأخرى من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإخلاء المدينة بأكملها، بات الذين اضطروا للرحيل قسراً، ومن بقي منهم طوعاً أو مُكرَهاً، يتوقون لذاك الاكتظاظ في الشوارع ويعتصرهم سكون طهران الموحش الذي لفّها طيلة 12 يوماً. ظل السكون مخيماً حتى الساعات الأولى من سريان وقف إطلاق النار صباح الثلاثاء الماضي، وسط أجواء من الترقب بين الإيرانيين عامةً وسكان طهران على وجه الخصوص. وتقول كيميا، الثلاثينية المقيمة في حي صادقية غربي العاصمة، في حديث لـ"العربي الجديد": "فرحتنا بإعلان وقف الحرب لم تدم طويلاً؛ إذ سرعان ما تبعها إعلان إسرائيل عن إطلاق صواريخ إيرانية وتهديدها برد قاسٍ في قلب طهران. لم نصدق أن الحرب توقفت حقاً إلا بعد أن مرّ يوم هادئ". وتتابع: "وقف إطلاق النار جاء فجأة، كما اندلعت الحرب فجأة. كنا نعتقد، خصوصاً بعد قصف أميركا لأصفهان وقم، أن الحرب ستطول على غرار غزة ويطول أمدها إلى أجل غير معلوم".
شابة إيرانية: لا أؤيد النظام، لكن رأيي بشأن إسرائيل تغيّر، هي حقاً مجرمة
ومع حلول اليوم الثاني (أول من أمس الأربعاء)، بدأت الحركة تدبّ في الشوارع تدريجياً، وشرعت بعض المحلات في استئناف نشاطها وفتح أبوابها. وتعبيراً عن التضامن والصمود وتجاوز الأيام العصيبة، أحيت أوركسترا طهران السيمفونية بقيادة المايسترو نصير حيدريان، مساء الأربعاء، حفلاً موسيقياً مفتوحاً بساحة آزادي غربي العاصمة، بحضور شعبي، وشملت الفعاليات عزف روائع الموسيقى الكلاسيكية ومقطوعات تدور حول السلام والإنسانية، وسط مشاعر أمل وتعاطف بين الحضور. من ساحة آزادي، غربي طهران، إلى حي سعادت آباد الثري شمال غربي العاصمة، حيث أوقفت شابة عشرينية سيارتها أمام سوبرماركت، فيما كان صوت الفنان الإيراني الشهير نصر الله معين، المقيم في لوس أنجليس، يشدو أغنيته "أعشق إيران" يخرج من سيارة الفتاة. تقول الفتاة وقد بدا شعرها مكشوفاً، مرتدية الجينز، لـ"العربي الجديد": "عدنا للتو إلى طهران، ولم أشعر يوماً بهذا الشوق للعودة كما أشعر اليوم. مررنا بأيام صعبة للغاية لم أعش مثلها طوال 26 عاماً في حياتي".
وتضيف: "كما ترى من مظهري، لا أؤيد النظام، لكن رأيي بشأن إسرائيل تغيّر، هي حقاً مجرمة. كيف يمكن أن يطلب من عشرة ملايين إنسان إخلاء مدينتهم قسراً؟ عاملونا وكأن كلّاً منا قنبلة نووية. وإذا كانوا يريدون استهداف البرنامج النووي فقط، فلماذا قصفوا العاصمة والمنشآت النووية في أماكن أخرى؟". وبث التلفزيون الإيراني الرسمي، للمرة الأولى منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، صورة وصوت الفنان معين خلال أيام العدوان الإسرائيلي، أثناء استعراض تغريدة قال فيها: "الوطن هو الإرث الوحيد الذي لا يمكن التفريط فيه أو وهبه أو بيعه". أثارت الخطوة دهشة كثيرين في إيران، وسط تساؤلات إن كانت مؤشّراً على تغيّر مرتقب في السياسات الداخلية بعد وقف العدوان، كما يطالب ناشطون وسياسيون، أم إنها مجرّد خطوة اضطرارية لجأ إليها الإعلام لإيقاظ المشاعر القومية والوطنية.
يوميات نازح
من شوارع الشمال الغربي مروراً بزحام مروري خفيف، إلى حي بارك وي، شمالي طهران، حيث يقول مواطن إيراني كان من سكان الحي في اتصال مع لـ"العربي الجديد": "في اليوم الثاني للحرب جئنا إلى منتجع سياحي في كردستان، ولا نعتزم العودة حالياً إلا بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع في همدان. أينما ذهبنا رحبوا بنا بشوق، قد شهدت البلاد تلاحماً غير مسبوق بين الجميع"، مضيفاً: "سمعت أن طرقاتها مكتظة فقررنا العودة بعد أيام. هنا أشعر بالأمان، غير أن قلقي على البيت والأصدقاء وأهالي طهران لا يفارقني". بعد ذلك، يُمرّ من نقاط تفتيش لقوات الباسيج التي أصبحت تنتشر في أنحاء طهران والبلاد للوصول إلى المتعاونين مع إسرائيل من داخل إيران في هجماتها، وصولاً إلى منطقة نوبنياد في الشمال الشرقي للعاصمة، حيث استُهدفت حارة الشهيد جمران السكنية في الموجة الأولى للعدوان صباح 13 يونيو/ حزيران الحالي.
يروي محمد مهدي الأربعيني لـ"العربي الجديد": "نحو الثالثة فجراً من ذلك اليوم سمعنا دوي انفجارات هائلة لم نعتد سماعها، هرعت إلى الشارع فوجدت الجيران يهمون بالخروج ويجتمعون ويتحدثون عن تدمير مبنى على بعد 200 متر". يضيف: "ظن البعض بداية أن أنبوب غاز انفجر، لكن تتابع الانفجارات القريبة والبعيدة زاد الذعر بين الناس، وكان السؤال الملحّ للجميع: ماذا يحدث؟". يشير مهدي إلى أنه سمع أحد الحاضرين يقول: "إسرائيل هاجمت إيران"، ليردّ آخر متسائلاً: "لماذا استهدفوا مبنى سكنياً؟". ويتكون هذا المبنى الذي استُهدف في الدقائق الأولى للعدوان من 14 طابقاً، استشهد فيه 60 شخصاً، بينهم رضّع تتراوح أعمارهم بين ستة وتسعة أشهر. وفي مدينة كبرى كطهران، تبلغ مساحتها 730 كيلومتراً ويقطنها 14 مليون نسمة، لم تظهر للعيان صور دمار سوى تهدم أكثر من 120 شقة سكنية بالكامل وتضرر أكثر من 500 شقة أخرى.
استمرت أصوات الانفجارات طيلة 12 يوماً في طهران. وتقول أزيتا (19 عاماً) من حي برديس، قرب منطقة بارجين العسكرية شرق العاصمة، إن أسرتها بقيت في منزلها مع الاستعداد بتوفير الأدوية والضمادات، مضيفةً أنها لم تستطع تمييز أصوات الانفجارات، سواء كانت قصفاً مباشراً أو دفاعات جوية، مشيرة إلى طمأنة والدها وهو مقاتل سابق في الحرب الإيرانية العراقية (1980 ـ 1988) حين كان يؤكد أن المضادات الجوية هي التي تستهدف الأهداف الإسرائيلية في الجو، وفي حال سماع انفجارات كبيرة كان يتحدث عن إصابة مواقع. وتعرب أزيتا عن انتقادها السلطات لغياب صافرات الإنذار بقرب الهجمات أو وجود ملاجئ، قائلة: "يبدو أنه لم يتوقع أحد أن تتعرض طهراننا لعدوان".
شاب إيراني: لا يجب أن تستمر السياسات على ما كانت عليه، لماذا العداء لأميركا؟
أسئلة ما بعد الحرب
تنتشر في طهران وطرقاتها صور القادة العسكريين والعلماء النوويين الذين اغتالتهم إسرائيل في الساعات الأولى، في حين ترتسم علامات استفهام على وجوه الكثيرين في العاصمة وسائر البلاد حول سبب فقدان هذا العدد الكبير من القادة دفعةً واحدةً. يقول كوروش، الثلاثيني من حي بيروزي، شرقي العاصمة لـ"العربي الجديد": "ربما البعض لا يتفق مع هؤلاء القادة، لكنهم أبناء هذا البلد. رحيلهم معاً أحدث صدمةً ومخاوف من مستقبل مجهول وفوضوي". ويقول شاب آخر: "أنشد التغيير. لا يجب أن تستمرّ السياسات على ما كانت عليه، لماذا العداء لأميركا؟ لكنّني أدركت أن الحرب تُغيّر الأمور للأسوأ لا للأفضل. لا أدري كيف يصبر أهل غزة على هذا الوضع المأساوي. الله يعينهم". ثم يقاطعه آخر بالقول: "شاء البعض أم أبى، أصبح مستقبل إيران كدولة واحدة مرهوناً ببقاء الجمهورية الإسلامية". ويشدّد مواطن آخر على أن "الخروقات الأمنية خطيرة ويجب معالجتها على وجه السرعة. لم يسبق أن فقد بلد هذا العدد من القادة في بداية الحرب. لم أكن أتصور أن تنطلق هجمات من الداخل عبر عملاء. من أين جاء هؤلاء الخونة وكيف أطلقوا هذا العدد من الطائرات المسيرة؟".
ومع الاتجاه جنوباً وشرقاً حيث معاقل مؤيدي الجمهورية الإسلامية أقوى من غيرها، تزداد الزحمة والنشاط في الشوارع، فلم تتغير أحياء جنوبي طهران كثيراً عن أيام ما قبل الحرب، وبقي معظم سكانها في بيوتهم من دون مغادرتها. يقول سعيد (65 عاماً) المقيم بحي فلاح جنوبي طهران: "لم تكن لدينا فيلا شمال طهران قرب البحر كالتي يملكها الأغنياء، ولم يكن عندنا مال نغادر به منزلنا. فبقينا هنا". وينتقد سعيد السلطات قائلاً: "ارتكبوا أخطاء كبيرة وكثيرة. لو امتلكنا قنبلة نووية لما هوجمنا. مع ذلك علّمت القوات المسلحة العدو درساً صعباً بصواريخنا". وبينما يدعو البعض إلى امتلاك السلاح النووي، يشكك آخرون في جدوى البرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم، حيث يرى الخمسيني فريدون "ما كان ينبغي أن نتجه نحو النووي، ما الفائدة من ذلك؟". أما حسن (أربعيني) من حي طهران سر، جنوب غربي العاصمة، فيقول: "لا شك في أننا عشنا ظروفاً قاسية، لكن ما كان يثلج صدورنا في هذه المحنة هو قصف تل أبيب؛ هم قصفونا وتعدّوا على سماء عاصمتنا، لكننا بلغنا بصواريخنا عقر دارهم وحرمناهم النوم لأسبوعين. فمشاهد الدمار عندنا أقل بكثير مما لحق بتل أبيب. انتقمنا، لكن ذلك ليس كافياً".
أخبار ذات صلة.

