
قائد الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، تحدث الاثنين الماضي، خلال لقاء مع القيادات العسكرية لجنوبي الجزائر، عن ضرورات تفرضُها السياقات الراهنة، تخصّ الحاجة إلى "تطوير تفكير نقديّ مجتمعيّ يساعد في الوقاية من الوقوع في شراك الدعاية". فكرةٌ مهمّة وضرورية بالنسبة إلى مجتمع تجاوز مرحلة تشكّل الوعي بالمشكلات القائمة محلياً وإقليمياً، لكنّ السؤال الذي يدفع نفسه بنفسه، هو هل هذا التفكير النقدي، ينطوي على مساءلة مضمون الدعاية المضادّة فحسب، أم أنه من الإيجابية بمكان أن يتعلق أيضاً بالسياسات ذات العلاقة بتدبير الشأن العام؟
ليس هناك خلافٌ أنّ الدعاية باتت واحدة من أبرز وسائل الحروب الحديثة ضد الدول والمجتمعات، وهذا الأمر لم يدفع بالحكومات إلى بناء أجهزة وسياسات خاصة لصدّ ذلك فحسب، لكن حتى الجيوش اضطرت إلى إحداث تعديل تاريخي في الهيكلة التقليدية المعتادة (برّ وبحر وجو)، بإضافة قوّة رابعة تشتغل في مجال الدعاية والدعاية المضادة والحروب السيبرانية، غير أن المسألة التي يقترحها قائد الجيش، "تطوير التفكير النقدي"، لا تصبح ذات معنى جدّي ومفيد، إذا بقيت محصورة في النطاق الضيّق الذي يعنيه.
من الضروري الانتباه إلى أن الدعاية المضادة ضدّ البلد، تتغذى بالأساس على أخطاء الحكومات والسياسات والخيارات الخاطئة، وهي في الغالب خيارات لم تخضع بالقدر الكافي للنقاش والنقدية اللازمة، ولم تأخذ حقّها من الفحص والتمحيص في المجال الذي يعنيها، سواءً كان في البرلمان أو في النقاش السياسي أو في وسائل الإعلام أو في فضاءات النُّخب والجامعة وغيرها، ذلك أن تحرير المبادرة في نقد السياسات العامة بصورة بنّاءة متحرّرة من أدبيات الصّدام والانزلاق والخلفيات العقيمة، وحده الذي يعزّز عوامل نجاح هذه السياسات، وينبه بصورة استباقية إلى مكامن الخلل المحتملة، سواء في المحتوى أو في أدوات تنفيذها، بما يخفض الكلفة السياسية والمادية.
يتطلب ذلك أن يتّسع صدر السلطة في الجزائر على نحوٍ إيجابي، وأن تعترف للمجتمع السياسي والإعلامي والنّخب وغيرها، بالحق في المساءلة ونقد كل ما له علاقة بتدبير الشأن العام والسياسات، في النطاق المنتظم والأطر الوسيطة، وأن تُعيد تكييف تصوّرها للعلاقة مع المجتمع السياسي والصحافة وغيرها، على أساس مختلف، ذلك أن كلّ التجارب السابقة في التاريخ السياسي للجزائر، تؤكد أنّه متى فقدت السلطة حكمةَ تقبُّل المساءلة وحاسة الاستماع إلى الصوت النقدي، كلما تَكرّس مناخٌ من التسرّع والقلق، وتخسر البلاد مسافة سياسية وزمنية عن تحقيق المشروع الوطني.
يعاني المجتمع السياسي في الجزائر خلال السنوات الأخيرة من ضعف بيِّن في هوامش النقد السياسي، وانحصار لافت في مجالات النقاش في الفضاء العام، وهو وضعٌ بخلافِ الحاجة التي برزت بعد عام 2019 بالنظر إلى حيوية المجتمع وديمغرافيته الشابة، التي تحتاج إلى تأطير وتنظيم وانخراط أكبر في مجالات الشأن العام (8% فقط من الشباب الجزائريّ منخرط في الأحزاب والجمعيات بحسب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون)، والشعار الذي رفعه الرئيس الجزائري بشأن "بناء ديمقراطية مسؤولة وليس ديمقراطية واجهة"، وهو شعار قيّم، لكنّ ذلك لن يتحقق دون المجال الديمقراطي.

أخبار ذات صلة.
