الجوائز العربية وتنميط الأدب: كيف أكتب رواية تحصل على جائزة؟
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

كتبَ روائيٌّ معروف، قبل فترة، منشوراً يعلن فيه اعتزاله الكتابة لأسباب منها عدم حصوله على أية جائزة، وكم هو في حاجة إليها، لأنه يرغب في أن يبرّر أمام عائلته غيابه في غرفة مكتبه ساعات طويلة ومنذ سنوات، متحلّلاً من كثير من التزاماته كرب أسرة ومسؤولياته الاجتماعية. كانت الجائزة بالنسبة له بمثابة الاعتراف بوجوده كاملاً، وإشارة إلى الجميع بأنه حقيقي، وليس متوهماً أو زائفاً.

لم تعد الجوائز الأدبية مبلغاً ماليّاً كبيراً في حساب الفائز فحسب، بل صارت تكريساً لحضوره ومشاركته، من استكتاب في الصحف والمجلات، وصولاً إلى دعوته لمعارض الكتب، والندوات والمؤتمرات والمهرجانات، وما بينهما من حضور إعلامي. إنها إحدى بوابات السفر والشهرة، بل تجاوز الأمر إلى تكليف أصحاب الجوائز بتقديم دوراتٍ تعليميةٍ في الكتابة الإبداعية.

اليوم، يرى كثيرون من الكتّاب والمبدعين أن الجوائز حدث فارق في تاريخ الكاتب، فهي الشرفة التي يطل من خلالها على جمهور واسع يقرأ النص الأدبي "بضمان الجائزة". إنها العتبة التي يعبر من خلالها إلى محطة جديدة في مشواره، وهي وثبة مادية وأدبية تكرّس وجوده وتشجّعه على المواصلة. فكما يقول ماريو بارغاس يوسا، تمنح الجائزة الكاتب فرصته للوصول إلى جمهور واسع، وتسلط الضوء على الأدب الجاد. وكذلك رأى نجيب محفوظ، الذي كان ممتنّاً لجائزة نوبل التي حصل عليها عام 1988 لأنها ساعدت في نشر الأدب العربي عالمياً.

كذلك يحكي كثيرون كيف مثلت الجائزة بالنسبة لهم "الوثبة" الكبيرة مادّياً وأدبياً. المتتبع لحفلات تسليم الجوائز وكلمات الفائزين ذات المشاعر الفيّاضة يكتشف بسهولة أثر هذا الحدث. يقول أحدهم إنه سيشتري أخيراً هواتف لأبنائه، وآخر يعلن أنها المرّة الأولى التي يركب فيها طائرة، وثالث يشعر الآن بأنه "حقيقي"، ورابع يرى أن الوقت قد حان للردّ على المشكّكين في مشروعه.

قد يكون هذا المنحى مفهوماً، بل ويمكن قبوله في إطاره؛ أي أن يسعى كاتب للحصول على اعتراف. وليس ثمّة أبلغ من الجائزة اعترافاً مصحوباً بمكافأة مجزية، فليس صحيحاً أن الكاتب يكتب لنفسه كما يروج البعض، إنه يكتب ليُقرأ، ومن ثم فهو ينتظر استحسان الآخرين مهما بلغت خبرته أو قيمته.

الخطر الحقيقي في الأمر يكمن في أن تتحول الجائزة الأدبية إلى هاجس أو وسواس قهري لا يغادر ذهن الكاتب قبل الكتابة وفي أثنائها وبعدها. إنه الجانب المظلم من الجائزة، التي تتحول حينئذ من أداة تحفيز وإجادة إلى رقابة ذاتية صارمة، تدفع الكاتب للنظر إلى الخارج أكثر مما ينظر إلى داخله.

زخم مفقود

بنظرة إحصائية سريعة لواقع الجوائز العربية، نرى أن الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية)، تمثيلاً لا حصراً، أنتجت لنا منذ انطلاقها نحو 288 رواية في القوائم الطويلة، خلال 18 دورة، وجائزة كتارا أنتجت 109 روايات فائزة في كافة فروعها خلال عشر دورات، بخلاف 192 رواية وصلت إلى القوائم الطويلة في الدورتين الأخيرتين فقط. بالإضافة إلى 81 رواية في "جائزة الشارقة" خلال 27 دورة، و30 رواية فازت بجائزة دبي الثقافية قبل توقفها. العدد نفسه تقريباً، أي 30 رواية في الدورة الأولى لجائزة القلم الذهبي، ونحو 28 رواية بجائزة الطيب صالح، و27 في جائزة نجيب محفوظ (الجامعة الأميركية في القاهرة)، و60 رواية على الأقل فازت بجائزة ساويرس الثقافية بين شباب وكبار الأدباء، بخلاف عدد لا بأس به من العناوين التي وصلت إلى القوائم القصيرة، و15 رواية بجائزة حمد بن راشد في دورتين بخلاف القوائم. و113 فائزاً بـ"جائزة الشيخ زايد للكتاب" في فروعها التسعة، بخلاف عدد آخر من الجوائز الهامة مثل جائزة معهد العالم العربي في باريس وجائزة الفكر العربي وغيرهما. تشير هذه الأرقام التقريبية إلى وجود أكثر من ألف نص أدبي تم تتويجه بالفوز أو بالوصول إلى القائمة خلال السنوات الماضية، مع وجود هامش من أسماء الكتّاب المتكررة. فكم اسماً من بين هؤلاء ما زال عالقاً بالذاكرة؟ وكم نصّاً تمت ترجمته وحقق نجاحاً في نسخه المترجمة؟ وكم نصّاً حظي بالاهتمام النقدي الجاد، وليس "ريفيوهات" النقد الانطباعي على مواقع التواصل؟

أقل من عقدين

ما زلنا في بداية الظاهرة مع ألف عنوانٍ متوّجٍ خلال أقل من عقدين. وقد كان الغرب قد سبقنا إلى هذه الظاهرة منذ أكثر من مائة عام. فـ"جائزة غونكور" الفرنسية مثلاً أطلقت عام 1903، وفاز بها من العرب الطاهر بن جلون وأمين معلوف، و"جائزة بوليتزر" تأسست في 1918، و"جائزة أنسفيلد وولف" في 1935، و"جائزة الكتاب الوطني" في 1950، و"المان بوكر" تأسست في 1968، و"جائزة وليم فوكنر" أطلقت عام 1980، و"جائزة باجوتا" في إيطاليا كانت في 1927.

ألف عنوانٍ متوّجٍ بجوائز أدبية عربية خلال أقل من عقدين

ربما تكون حداثة فكرة الجائزة في الثقافة العربية الحديثة واحدة من أسباب الظواهر السلبية المصاحبة لها. فكثيرون من الكتاب العرب لم يتمرّسوا بعد على هذا الوضع، فتحولت الجائزة، كما تقول الإماراتية ريم الكمالي في منشور لها، إلى "فيروس" يُفسد التكوين الأخلاقي للمجال الأدبي دون قصد. لقد بات بعض الكتّاب شبه متوقفين عن الكتابة بعد نيل جائزة، وبعضهم فقد الشغف أو صار أقل إبداعاً وجودة مقارنة بأعماله السابقة. فقط قلّة من المبدعين اجتازوا هذه المحنة وواصلوا إبداعهم بدأب وشغف. بينما كرّس البعض الآخر جل اهتمامهم للوصول إلى الجائزة.

حالات فريدة؟

في إحدى النقاشات بين كاتب لسنا في صدد ذكر اسمه، ودار نشر أرادت أن تنشر روايته، طُلب من الروائي تعديل جزئية لها علاقة بإقحام صراع عسكري دائر خلفيةً للأحداث. كانت الفكرة دخيلة ليس لها سند منطقي أو ضرورة درامية، وطلب منه تعديلها، فكان تبرير الكاتب أنه يرغب في الترشح لجائزة بعينها تركّز على موضوعات الصراعات العسكرية والسياسية والهوية والصراع الثقافي وقضايا المرأة!

هذه ليست حالة فردية على الإطلاق، فلا تكاد تخلو ورشة كتابة في أي بلد عربي من السؤال المعتاد: كيف أكتب رواية تحصل على جائزة؟ أو ما هي الموضوعات الطازجة التي تفضّلها الجوائز؟ وكأن هناك وصفة معروفة لرواية الجائزة، وأفكاراً جاهزة للتعليب.

مع ذلك كله، لا يمكن إغفال أهمية الجوائز الأدبية، كما لا يمكن إغفال دورها في ترويج الكاتب وإبداعه. فأبرز الأرفف التي يتوجه إليها القرّاء في معارض الكتب والمكتبات هي أرفف الجوائز. ولكن أن تصبح الجائزة أداة تدجين وقولبة، أو محلاً للتنافس والصراع، فهذا ما يجب أن ينأى عنه الكتّاب. وإذا كانت لدينا أكثر من ألف جائزة، بقوائمها، مرشّحة للتضاعف خلال سنوات قليلة، فالمسألة إذن هي مسألة وقت حتى يحين دورك، وقريباً سيكون الكاتب الذي لم يحصل على جائزة هو استثناء يثبت القاعدة.

 

* كاتب وصحافي من مصر

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية