السودان.. لون الجلد فاصل بين التعاطف واللامبالاة
Arab
1 day ago
share
السودان، هذا البلد الذي أبهر العالم عام 2019 بثورته الجسورة ضد نظام عمر البشير. ثورة جبّارة تميّزت، على عكس نظيراتها في العالم العربي، بريادة النساء وبروزهن في الصفوف الأمامية للاحتجاج. غير أن هذا الحدث الذي تابعناه بإعجاب، سرعان ما انقلب إلى مأساة نرى بشاعتها يومًا بعد يوم وإلى غاية اللحظة الراهنة. تحوّلت انتفاضة السودانيين ورغبتهم في الديمقراطية والعدالة والكرامة إلى حرب ضروس دمّرت الإنسان وبعثرت ملامح البلاد. أضحى السودان جرحًا غائرًا في خاصرة الإنسانية، لا سيما بعد أن فشلت هذه الأخيرة في أن تعطي لهذه المأساة ما تستحقه، سواء من حيث التغطية الإعلامية، أو الحداد على الضحايا، أو حتى أبسط مظاهر التعاطف الإنساني. مشهد يعيد إلى الواجهة حقيقة قاسية: العالم لا يزال أسير معايير استعمارية استعلائية تحكم نظرته إلى أفريقيا، وإلى الإنسان الأفريقي على وجه الخصوص. في مؤلفه الشهير "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، يشرح الكاتب والمفكر فرانز فانون كيف يُعامَل الإنسان الأسود تلقائيًّا بطريقة مختلفة عن الإنسان الأبيض. فكرة تتبادر إلى الذهن كلما طرحنا سؤالًا بسيطًا ومقلقًا: لماذا لا نسمع عن أوجاع السودانيين في وسائل الإعلام؟ لماذا نقرأ عنهم أقل، ونسمع عنهم أقل في الإذاعات، ونشاهد صورًا شحيحة عنهم في التلفاز؟ ولماذا تصلنا معلومات محدودة عن هذه المأساة، حتى من إعلام يساري أو معارض أو معادٍ للرأسمالية؟ المسألة هنا أبعد من الاصطفافات السياسية أو التفضيلات الأيديولوجية. إنها بنية ذهنية عميقة جعلتنا نألف، بل ونتعايش، مع معاناة الإنسان الأسمر. فمنذ نعومة الأظافر، نُلقّن أطفالنا أن "أفريقيا جائعة وعطشى"، وكأن القارة كُتِب عليها البؤس منذ الأزل. تُرسَّخ صورة نمطية تختزل شعوبًا كاملة في العوز الدائم، ومع مرور الوقت تصبح المعاناة مألوفة، عادية، روتينية... لا تُحدث صدمة ولا تثير غضبًا. وإلى جانب التعتيم الإعلامي وشحّ المعلومات، يبرز تضامن شعبي وإنساني خجول، يكاد يكون منعدمًا، مع السودانيين. لم نشهد مظاهرات عارمة في عواصم العالم، ولا احتجاجات واسعة، ولا حركات ضغط أو مقاطعة. لم نسمع عن تحقيقات جادة أو تغطيات متواصلة، لا في الإعلام الغربي ولا العربي. أما الإعلام الغربي الأوروبي والأميركي، فقد اعتدنا منه ازدواجية المعايير وعنجهية متسلطة، إضافة إلى نظرة متعالية تجاه مآسي ما يُسمّى بـ"العالم الثالث". تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حين وصف بعض الدول بأنها "قذرة وحقيرة"، لم تكن إلا تعبيرًا فجًّا عمّا يُقال في الخفاء ويُغلّف علنًا بابتسامات مصطنعة وخطاب أخلاقي انتقائي. المسألة أبعد من الاصطفافات السياسية. إنها بنية ذهنية عميقة جعلتنا نألف، بل ونتعايش، مع معاناة الإنسان الأسمر، حتى صارت المعاناة مألوفة لا تُحدث صدمة غير أن النتيجة لا تختلف كثيرًا حين نلتفت إلى الإعلام العربي أو الأفريقي وإعلام دول الجنوب. هنا أيضًا، نواجه متابعة باهتة، بلامبالاة أحيانًا، وبإعادة مملّة لمشاهد القتل والدمار، إلى حدٍّ يُنهك الصحافي ويُخدّر المتلقي. عنف اللامبالاة هذا يهزّ الوجدان بقسوة، خصوصًا في ظل غياب أي وساطات جدية أو حتى تنديدات رمزية، تلك التي كنا نسخر منها يومًا ما، لكنها باتت في مثل هذه اللحظات أمنية لا أكثر. حتى القوى الدولية التي تدّعي السعي إلى إنهاء الحروب، تتابع مأساة السودان ببطء وفتور، وكأن العالم غير مستعجل على وضع حدٍّ لهذه الكارثة. فرانز فانون لمس في أعماله هذه الفروقات العرقية في العديد من مظاهر الحياة كاللغة والتعبير وعلاقة الفرد بنفسه وبالآخرين، وقد استطاع أن يبيّن أن وقع الاستعمار في أنفسنا له أثر قوي لا يُستهان به، ولهذا يمكن أن نقول بطريقة أو بأخرى إنه يؤثر على نظرة الإنسان إلى ما حوله، وبالتالي نظرته إلى من يستحق الدفاع والتعاطف معه ومن لا يستحق ذلك. فإن سنوات من الإمبريالية والاستعمار والهيمنة والاضطهاد لدول ما يسمى بالعالم الثالث قد شكّلت وعيًا مشوّهًا يميّز الإنسان إلى نوعين: النموذجي الذي يطمح الجميع إلى التشبه به وكلما اقتربت من الشبه به أصبحت مشاكلك مهمة وأصبحت مهمًّا للبشرية، وكلما ابتعدت عن "النموذج المثالي" ابتعدت عن الأهمية وأصبحت في هوامش التاريخ وفي هامش الضمير الجماعي. يتحدث فانون أيضًا عن أن هذه العقلية جعلت من الإنسان ذي البشرة الملونة شخصًا يُكِنّ بعضًا من الاحتقار لذاته ولمن يشبهونه، ثم يحاول بشدة التنصّل من هذه الهوية والابتعاد عنها أكثر ما يمكن، ولعل هذا يفسّر من جانب لماذا قرر الرأي العام تجاهل السودان، وليس السودان فقط، بل كانت من قبله الكونغو وكانت من قبله دول عديدة لم نسمع عنها ولم يلتفت لها العالم عندما استنجدت به. ولهذا يصف فانون أن هذا الجو جعل الإنسان يغرق داخل صراع داخلي وسباق أبدي يستمر فيه الإنسان في محاولة التشبه بالنموذج، بالشخص المثالي، متجاهلًا كل من لا تنطبق عليه هذه المعايير. فهل فعلًا يُعتبر التجاهل للحرب في السودان وفي دول أفريقيا السمراء عنصرية بنيوية ثمرة خالصة للهيمنة الإمبريالية على العالم أم أنه كما قد يجادل البعض دليل على أن مآسي العالم في تزايد لحدٍّ لا يحتمله النضال؟ وهل فعلًا لون الجلد فاصل بين التعاطف واللامبالاة؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows