
شكلاً، البلاغ (البيان) المنشور في صفحة وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج على "فيسبوك" يوم 24 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، بدون عنوان أو إمضاء من الوزير محمد علي النفطي، يحمل بصمات الرئاسة التونسية، فهو يتماهى مع أقوال الرئيس قيس سعيّد وخطبه، ويشبه البلاغات التي تُنشر في منصات التواصل الاجتماعي العائدة بالنظر لرئيس الجمهورية التونسية، وخاصة منصة فيسبوك، عاكسا الخلفية السياسية والذهنية نفسها. ومثل كل بلاغات الرئاسة التونسية، جاءت جمل البلاغ مطوّلة، كثيرة الحشو والاستدراك، سمتُه الحجاج ومهاجمة الآخر، مصطلحاته خشنة عنيفة وحادّة واتهامية، لا علاقة لها بالقاموس الدبلوماسي، وهو قاموسٌ تتسم مصطلحاته بالمسالمة والبرود، ويجتنب خطابه المباشرة في إبلاغ الرسائل.
البيان، في مضمونه، ردّ متأخر، بعد مرور ستة أيام، على إحاطة إعلامية تقدّم بها المتحدّث باسم مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان ثمين الخيطان يوم 18 فبراير/ شباط، ونشرت في موقع المفوضية تحت عنوان "تونس: وضع حدٍّ لجميع أشكال اضطهاد المعارضين والنشطاء". وليست هذه الإحاطة الأولى التي تثير فيها مفوّضية حقوق الإنسان قضايا الحرّيات والاعتقالات التي طاولت سياسيين متحزّبين وغير متحزّبين وإعلاميين ومدوّنين ونشطاء نقابيين ومدنيين في تونس بعد استفراد قيس سعيّد بالسلطة في 25 يوليو/ تموز 2021.
الأمثلة عديدة، ولكن من دون أن تثير حفيظة السلطات التونسية وخصّها ببيانات مماثلة، ففي 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وعلى أثر تجديد ولاية قيس سعيّد الرئاسية، دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، السلطات التونسية إلى حماية العملية الديمقراطية في البلاد ودعم الحريات الأساسية، بعد حملة انتخابات رئاسية شابها قمع ضد المعارضة. وقبل سنتين، في يونيو/ حزيران 2023، أعرب المفوض الأممي لحقوق الإنسان عن قلقه البالغ من القيود المفروضة بشكل متزايد على الحق في حرية التعبير وحرية الصحافة في تونس.
دعت المفوضية الأممية في إحاطتها الإعلامية السلطات التونسية إلى وضع حد لأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسّفي والسجن، التي يتعرّض لها عشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحافيين والنشطاء والسياسيين، وعدّدت الاتهامات، واعتبرتها فضفاضةً وغامضة، وأشارت إلى محاكمة 40 متهما في قضية "التآمر على الدولة"، بينهم معارضون من مختلف الانتماءات السياسية (حوكموا ابتدائيا أمس، 4 مارس/ آذار، عن بعد من دون حضور المتهمين في قاعة المحكمة وبدون تغطية إعلامية، ما اعتبره المحامون إخلالا بمجلّة الإجراءات الجزائية).
كما عدّدت الإحاطة أسماء المعتقلين السياسيين والإعلاميين، على غرار رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، التي خاضت إضراب جوع مفتوحاً، وسنية الدهماني المسجونة على خلفية تصريحات إعلامية تتعلق بالمهاجرين غير النظاميين من جنوب الصحراء، وإصدار المحكمة الابتدائية في تونس أحكاماً بالسجن بين خمس سنوات و54 عاماً، على 41 شخصاً في ما تُعرف بقضية "إنستالنغو". وسجْن رئيسة هيئة الدفاع عن الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، وهي في سن 75 سنة، وكذلك اعتقال رئيس المجلس التونسي للاجئين ومدير المشاريع في المنظمة غير الحكومية نفسها، بتهمة إيواء مهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى بشكل غير قانوني.
لا أحد يمكنه نكران أن عديدين من رؤساء الأحزاب والقيادات السياسية ومن الإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني في تونس في السجون
تعتبر السردية المضمّنة في بيان وزارة الخارجية التونسية أن ما ورد في إحاطة مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان "مغالطات وانتقادات بخصوص وضعيات بعض الأشخاص من المواطنين التونسيين الذين يخضعون لتتبّعات عدلية من القضاء الوطني"، وأن تونس ملتزمة بحماية حقوق الإنسان بناء على ما ورد في دستورها لسنة 2022 وقوانينها، وما التزمت به دولياً إقليمياً وعالمياً، وهي تنأى بنفسها عن التدخّل في شؤون الغير في الوقت الذي يمكنها أن تعطي دروسا "لمن يعتقد أنّه في موقع يُتيح توجيه بيانات أو دروس"، على حدّ قول البلاغ التونسي. تذهب الرواية الرسمية التونسية إلى أن إحالة المتّهمين، موضوع بيان المفوضية الأممية، تمّت من أجل جرائم حقّ عامّ لا علاقة لها بنشاطهم الحزبي والسياسي أو الإعلامي أو بممارسة حريّة الرأي والتعبير، ومن جرت إحالته على القضاء، فذلك بتقدير مستقلّ من القضاة، ولا دخل لأيّ جهة غير قضائية في ما يتّخذه القضاة.
اتسم بيان وزارة الشؤون الخارجية التونسية بضعف حجّته، إذ لا أحد يمكنه نكران أن عديدين من رؤساء الأحزاب والقيادات السياسية ومن الإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني في السجون، منهم من صدرت في حقّهم أحكامٌ قضائية، ومنهم من ينتظرون موعد محاكمته، لموقف صدع به أو بيانات سياسية وقّعها أو أنشطة احتجاجية شارك فيها أو اجتماعات حضرها.
وزاد من ضعف مصداقية هذا البيان، وجعله موضع تندّر من كثيرين من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، تساؤله "ماذا كان سيفعل (القضاء التونسي) حين يقول آخر إنّه أعدّ مائة ألف انتحاريّ وهم مستعدّون للقيام بعمليات إرهابية"، ويَقصد بذلك تصريحاً منسوباً لقيادي من حركة النهضة (نور الدين البحيري)، أطلقه نقابي أمني في إطار المناكفات السياسية، ولم يقع إثبات صحّته، فإذا بوزارة الخارجية التونسية تضمّنه أحد بياناتها الرسمية بدون تدقيق أو تثبّت.
تحتاج السلطات التونسية إلى عقلنة خياراتها السياسية الداخلية وترشيدها، بإطلاق سراح كل مساجين السياسة والرأي والإعلام والتدوين والمجتمع المدني
لم يضع البيان التونسي الفرصة لتكرار ما دأب على ترديده قيس سعيّد من أن "التهم الموجهة لتونس اليوم أنّ شعبها أراد أن يعيش حرّا في وطن كامل الاستقلال والسيادة"، مضيفا: "ولو طأطأ رأسه، ولن يفعل أبدا، لتهاطلت عليه من هذه الجهات التي تُعرب عن قلقها شهادات في حسن السيرة والسلوك"، والحال أن المسألة في خطورتها تتجاوز الشأن السيادي إلى ما هو سيادوي قد يصلح في التعبئة الداخلية، لكنه لا يصلح في حسن إدارة العلاقات الدولية والروابط الدبلوماسية.
من كتب البيان التونسي، بوعي منه أو بدونه، يفاقم من توتّر علاقة تونس بمفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، والتي تتمتّع تقاريرها وتوصياتها بمصداقية لدى مجلس الأمن، ما قد يعرّض الدولة التونسية إلى المساءلة والعقوبات، ناهيك بأن عضوية تونس بالأمم المتحدة وتوقيعها كل المواثيق والمعاهدات الدولية، بما فيها المتعلقة بحقوق الإنسان ومنع الانتهاكات، يفرضان عليها الإجابة عن كل إحاطة أو مساءلة من المؤسسة الحقوقية الأممية، أو الانسحاب من عضويتها.
تحتاج السلطات التونسية إلى عقلنة خياراتها السياسية الداخلية وترشيدها، بإطلاق سراح كل مساجين السياسة والرأي والإعلام والتدوين والمجتمع المدني، وعدم الاستقواء على المجتمع السياسي التونسي باستخدام القضاء وإصدار الأحكام المجحفة السالبة للحرية.
وسيكون هذا الخيار أقل ضرراً وكلفة وأنفع للتونسيين ولوحدتهم الوطنية وتماسكهم وتضامنهم، وحتى للحكومة التونسية ولصاحب الأمر والنهي الرئيس قيس سعيّد، بدلا من التزيّد في المواقف والبيانات وجعل الاعتقالات والمحاكمات السياسية بوابة للتدخّلات الأجنبية في الشأن الوطني التونسي، الأمر الذي ينجرّ عنه البحث عن الاحتماء بقوى إقليمية ودولية، إذا أخذت قضية الحقوق والحريات السياسية في تونس أبعاداً أممية أخرى قد لا تحمد عقباها.

Related News

