
لم أجد وصفاً لائقاً بالموقف من الثقافة في اللحظة التي نعيشها اليوم في سورية سوى انعدام الوزن. إنّه وضع الرائد الذي يجد نفسه فيه حراً في الحركة شمالاً ويمينا وأعلى وأسفل، داخل القمرة، أو المركبة التي تقلّه. وإذا كان رائد الفضاء (والفضاء الفارغ هنا يمكن أن يعبّر عن حالتنا أيضاً) يتحرّك في الحيّز المُتاح، لغاية أو هدف مطلوبين منه لإنجاز مهمة ما، فإنَّ الثقافة في بلادنا اليوم، وليس المثقف فقط، تتحرّك في الحيز الذي يتّسم بانعدام الوزن، دون هدفٍ أو غايةٍ.
أما السلطة التي يحلو للبعض أن يسميها سلطة الأمر الواقع، فإنّها لم تقارب هذا الموضوع بعد، ثمة منطقة ضبابية حشرت نفسها فيها، وامتنعت عن قول أي كلام بخصوص حريّة الثقافة، أو ثقافة الحرية.
اللافت أنّ الحيزين السياسي والثقافي الجغرافيين يكادان يكونان حرين بالكامل، حرية غامضة مجهولة تجعل جميع السوريّين في حالة من الحيرة داخل متاهة البحث عن أجوبة. هل يمكن تكوين حزب سياسي؟ هل يمكن الخروج في مظاهرة؟ هل يمكن طباعة كتاب دون ملاحقة الرقابة؟ ما الرقابة؟ ما الممنوع وما المسموح؟
لا نعرف حتّى اليوم ما هي سياسة السلطة تجاه الحريات العامة
والطريف أن تكون هذه الحالة هي التي تمنع أن تكون ثقافة حرية من جهة، كما أنها تحمي السلطة من المسؤولية عن حرية الثقافة. لا توجد وزارة ثقافة، ولا خطّة للثقافة، ولا يعرفُ المثقفُ ما الخيارات الثقافية التي ستسير في اتجاهها مؤسّسات السلطة الثقافية، وقد يكون الانتظار نفسه، الذي أضحى في الأشهر الماضية لغة الموالين للسلطة، مؤسسة تغيب الاستحقاقات المطلوبة للمواطن السوري الذي بدأ ثورته قبل ثلاثة عشر عاما بالهتاف للحرية.
هل الحرية نفسها في خطر؟ نعم ولا. لا نعرف حتّى اليوم ما هي سياسة السلطة تجاه الحريات العامة أيضاً: حرية التنظيم، حرية الإضراب والاعتصام، حرية التعبير، حرية الكلام (هل يمكن لسلطة من هذا الطراز أن تفسح المجال للحريات الديمقراطية وهي تتحاشى بعنف صامت ذكر المفردة ذاتها في كل إعلامها الحالي؟) وقد كانت كلّ هذه الحريات في زمن البعث والأسدين مصادرة، ومُرغمة على الصمت، أو التجيير لصالح أغراض الحكم السياسية أو الأيديولوجية.
ومع ذلك فإنَّ السوريّين لا ينشغلون اليوم بهذه القضية مع الأسف، ومن الواضح أنَّ ضغوط الحياة المختلفة؛ وهي ضخمة وصعبة، تتعلّق بكل تفاصيل الحياة من المأكل والملبس والأمن والحاجات الأخرى كلّها، مثلما تتعلّق بالأمل أيضاً، دون أن تتوفّر حتّى اليوم المعطيات الكافية لهم للتأكد من أي شيء.
والراجح أن تكون السلطة الحالية سعيدة بهذا الوضع الذي يضمن لها أن ترسخ وجودها على الأرض، قبل أن تقرر اتخاذ الخطوات المتعقلّة بالحريات على الأرض نفسها. وهو ما يضع هذه المسألة في مهبّ الريح، أو في عالم المجهول القابل للتكهنات، والأقاويل، والحسابات الفكرية التي تقامر بالأمنيات، في الوقت الذي يتقاعس فيه المثقفون السوريّون عن الاهتمام بها. وفي الوقت الذي تظهر فيه علامات ودلالات تشير إلى محاولة السلطة وممثليها في دوائر القرار الشروعَ في وضع لوائح رقابية تتقصّد حرية التعبير.
* روائي من سورية

Related News


