"بالحبر الطائر" لعزة رشاد.. نون النسوة التي تطرح تساؤلات جمّة
Arab
10 hours ago
share

بين ثنائيات الوطن والاغتراب، الشباب والشيخوخة، المقاومة والاستسلام، الجوهر والقشور، تتمزّق مصائر شخصيات رواية "بالحبر الطائر"، الصادرة عن دار "الكتب خان" للكاتبة عزة رشاد، خصوصاً شخصياتها النسائية. أربع نساء، يبدأ اسم كل منهن بحرف النون، في مصادفة مصنوعة بعناية، فهو "نون النسوة"، الذي يطرح تساؤلات جمة؛ كيف تؤثر اللغة على تشكيل صورة المرأة؟ وهل هو تعبير عن حضور المرأة أم تصنيف لغوي مجرد فقط؟

هنا إشارة رمزية إلى أنّ المعاناة لا تخصّ نعمة ونجوى ونادين ونسمة، بطلات الحكايات، "جماعة الفور إن" كما يطلقن على أنفسهن، بل كلّ امرأة حوصرت في موطنها بقيود "القوالب" التي فرضتها الأنظمة الاجتماعية؛ الظروف، العادات، الجهل، الفقر، التقاليد، وحين شرع أغلبهن في الهرب إلى موطن جديد، حملت كلٌ منهن قديمها معها، ثلاث من أربع نساء سافرن إلى كبريات مدن العصر: أميركا، فرنسا، لندن، وبقيت الأخيرة في مصر، تحاول جمع شتاتهن عبر الهاتف في "جروب ماسنجر".

ثلاثتهن ذهبن، ليعشن في الغرب المضيء، الأكثر استنارة، لكنّ النفوس لا تألف الغربة وإن منحتها الأمن والحرية، فتعود للبحث في دفاتر الذكرى، في محاولة لاستعادة مشاعر غابرة، تعيد بناء الذكريات وفقاً للحاضر القاسي. هل كان الماضي مثالياً حتّى نحاول استرجاعه؟ أم هو الواقع الذي تعذّر علينا التكيّف معه فنكصنا إلى مراحل أخرى من حيواتنا، أم أنها طبيعة فترة الشيخوخة التي تجنح إلى ما يسميه علماء النفس "مراجعة الحياة" من أجل التقييم وإيجاد معنى لما مررنا به عبر مراحلنا العمرية المختلفة؟

شخصيات تقدّم نفسها عبر مشهدية درامية لا عبر بطاقات تعريفية

يقول عالم النفس فريدريك بارليت إنّنا قد نرى الماضي مثالياً هرباً مما نعيشه في الحاضر، بينما يرى فرويد أن هناك من يبقون عالقين في مراحل سابقة من تطوّرهم النفسي ما يدفع عقولهم لتكرار التفكير في الذكريات. إننا نتذكّر فقط المناسبات التي تركت آثاراً عاطفية في وجداننا، سلبية أو إيجابية، أكثر من التفاصيل العادية الأخرى.

تُحكى الرواية عبر لغة هادئة، واقعية شحيحة المجاز، ذات إيقاع خافت، توازن بين الفصيح والعامي المستمد من الحياة اليومية والشائع والفولكلوري (ظنوها حبلى بخمسة وخميسة. كانت صائمة من أيام من شدة الألم، لهذا نزلت عليه حتتك بتتك. أهري وأنكت، أروح وأجيء، في الزمان والانفعالات. ألسنتهم طائشة ومتوثبة كأنها تنتمي لفرسان سوف يشيلون الدنيا ويحطونها وليس لعجائز.. رجل في الدنيا ورجل في الآخرة).

إنها لغة تتماهى مع الشخصيات وبيئاتها المتقاربة، تهكّمية أحياناً ووصفية تقريرية أحياناً أخرى، تتسم بتصوير فنّي بسيط غير متكلّف، وبناء روائي معقّد نوعاً ما، يعتمد على تعدّد واختلاف مسافة الراوي عن الشخصية داخل الصوت الواحد؛ إذ تقرأ في بعض المواضع مشاهد يتم سردها بضمير المتكلم والمخاطب والغائب معاً وفي حيز سردي ضيق للغاية، لتحقّق تأثيراً وجدانياً خاصاً. غير أنَّ هذا الخيار الفنّي كان يحتاج إلى تنسيق أكثر تركيزاً في بعض المواضع حتّى لا تتداخل العبارات ويختلط المعنى. كما اعتمد الأسلوب تقنية التداعي الحر، الذي تحوّل أحياناً إلى تيار وعي، تلك الطبقة الذهنية التي تسبق الإدراك أو الوعي الكامل، لتحكي الشخصية من هذا المستوى ما يعتمل داخلها دون قدرة على المواربة أو التخفي.

هل هو تعبير عن حضور المرأة أم تصنيف لغوي مجرد فقط؟

تتقاطع الأحداث وتتشابك، بين خمسة أصوات متباينة، أربع نساء تواعدن على اللقاء في مدينة الإسكندرية - مدينة الطفولة والشباب - لاستعادة ذكرياتهن، وصوت ناجي ابن المرأة التي قررت البحث عن صداقات طفولتها. تستهل الرواية أحداثها بفصل قصير ترويه نعمة الأربعينية التي فقدت قطّتها منذ ثلاثة أيام، ليكن ذلك مؤشراً لوحدتها، رغم كونها متزوّجة ولديها ابن شاب، لكن (متى نفع زوج أو ابن؟! لذا سأكتب كل شيء هنا بالحبر الطائر، حتى إذا حانت ساعتي يحق لهما أن يعرفا ما حدث قبيل النهاية). ليصبح هذا الاستهلال مصيدة القارئ، ليتتبع بدوره آثار ما حدث قبيل النهاية أيضاً.

لكن نعمة لا تواصل الحكي، إذ نُفاجأ في الفصل التالي بأنها مختفية وأن ابنها ناجي - الذي يبدو أنه نجا من ماض والديه المعقّد بالعيش وحيداً - سيتولّى البحث عنها واكتشاف أمه من جديد من خلال ملفات جهاز اللاب توب الخاص بها، الجهاز الذي يفتح بدون "باسوورد" كحياة والدته وتجاربها. ليتضح أنه كان بإمكانه أن يقرأ شخصية أمه ويفك شيفراتها فقط إذا حاول، لكنّه كان بمنأى عن المحاولة، مفضّلاً عزلته عن جيل والديه الذي يعيش المليودراما والتراجيديات القديمة. بل أيضاً يكتشف جانباً مُظلماً في شخصيّة أبيه، ذلك الكاتب الذي يعيش لنفسه متنصّلاً من أي التزام يحدُّ من حريّته، فيقرأ خطابات أبيه التي تحتفظ بها والدته، لكنّها خطابات كتبها لامرأة أخرى! 

يصبح صوت ناجي، هو الصوت الذكوري الوحيد داخل الرواية، يظهر كفاصل إعلاني يتخلّل الفصول الطويلة لبقية الرواة، نجوى ونادين ونسمة ونعمة. ورغم اختلاف الأجيال، لكنه يشاركهن شعور الغربة والوحدة والرغبة في الهجرة (أن أبدأ حياتي بالسفر مطمئناً بأن وجودي مثل عدمه، لا يفرق مع أحد).

تقدّم كل شخصية نفسها عبر مشهدية درامية خاصة، وليس عبر بطاقات تعريفية صريحة تنثرها الكاتبة هنا وهناك. معلومة تزجّ بها في سياق سردي دون إقحام، ودون شعور من القارئ بأنه يلقن! إذ لا نعرف مثلاً أنّ عبد الرحمن - زوج نجوى - مولود في ميشيغن، في مجتمع غربي تقدّمي يدعم الحرية، إلا في سياق مقارنة رد فعله على علاقة ابنته المسلمة بديفيد كما لو كان مولوداً في أحد بلدان الشرق الرجعي! ولا نعرف أصوله الفلسطينية إلا حين يُفتح أمامنا صندوق قديم فوق المكتب، وصور منثورة بأرجاء الغرفة بينها الجد يحفر طلمبة مياه في قرية عين غزال، قبل أن تجبرهم "اليشوف" اليهودية على النزوح.. وغيرها عشرات التفاصيل التي تخصّ كل شخصية على حدة.

وعبر قوس عاطفي حاد، تتغيّر الشخصيات من طرف إلى الطرف النقيض، لكنّه تغيّر يسبق زمن الرواية، لقد تمّ قبل انطلاق عملية السرد ذاتها، إنّنا نتعرف بهم جميعاً في صورتهم الجديدة، بعد أن استقرت رحلتهم القاسية. نجوى التي تحلم بأنّها تقتل ابنتها، ذات الطفولة القاسية في كنف جدة ممتلئة بالحكايات، وأب تزوّج بعد موت الأم بأسبوع، الفتاة المنطلقة القوية الموهوبة ذات الميول الثورية، تصطدم وتتصادم مع واقع ترفضه ويرفضها، فتقرّر الهرب بعيداً للبدء من جديد، لكن البداية مضطربة، والغربة حين تعطي شيئاً تأخذ أشياءً، هكذا حتى تصل إلى محطة "الوصول"؛ محطّة تكوين أسرة تتزوّج وتنجب ابنتها نورا المسلمة التي تُغرم بديفيد ويصبح غرامها مطعنها. إنها نون أخرى امتداداً لبنات جنسها.

ومثل نجوى، تجد نادين نفسها في مدينة النور، باريس، رفقة زوجها وأبنائها، ولكن عبر بلد عربي نفطي. إنها الباحثة عن الحرية والمحبة، عاشقة الغناء، تعيش في باريس، بروح فتاة إسكندرية، بعد أن جلبت إليها بلدها الأصلي كما يقول لها ابنها صارخاً. لقد حرمت أبناءها فرنسا التي ولدوا بها وعاشوا لأنّها لم تتخلّص مما تركته خلفها، بل لم تتجاوز الحيّ العربي في باريس إلى جيرتها أم هشام وأم حمزة وأم باسم وامرأة فرنسية واحدة تعيش أزمة خاصة، فتتقرب إليها نكاية في الجميع. 

سوزان لوفيبر، امرأةُ مغدورة أخرى على هامش الحكايات، تبحث نادين في طبقات الذاكرة لتحاول تحديد لحظة واحدة، كان يمكنها أن تغيّر اتجاه حياتها، فلا تستطيع، ذلك أنّها لحظات كثيرة، لأن الإحباطات كانت كثيرة، بينما إحباطها الأكبر حين يحاول زوجها إجبارها على العودة إلى مصر لحماية ابنتيها من الحياة في فرنسا، بعدما شعر أنّه فقد ابنه في صراع الثقافة والدين والعادات. هكذا يدفعها للعودة مفلسة من المواهب والآمال وفرص المستقبل، بل فقط امرأة (سيرسل لها زوجها ثمن الأكل والشرب شهرياً). 

يعيش القارئ في نحو سبعين صفحة تاريخ الشخصية وتجاربها وإحباطاتها ثم تأتي السطور الثلاثة الأخيرة لتعبّر عن يقظة ما أو انتباه مصحوب بكلمة رفض، غير أننا لا نعرف أهي حالة دائمة، أم سيعود الحال ملكاً للظروف وللآخرين، كما كان دائماً؟!

نسمة هي الأخرى بحثتْ عن خلاصها، بالهجرة إلى مدينة الضباب، ليس من خلال منحة دراسية أو عبر بلد وسيط، وإنما باستغلال أحد أسباب معاناتها، فهي تعاني عيباً خلقياً، مرضاً جينياً يعطيها سمات خاصة، ويعطّل وظائف أنثوية ويؤثّر في طبيعتها الجسدية وملامحها، فيصبح هذا العيب هو ذاته بوابتها للهرب إلى لندن للانضمام إلى مركز تأهيل بمساعدة أحد أقاربها، هو نفسه منفي بقوة قهرية بعيداً عن موطن طموحه وأحلامه الكبرى.

هي إذن معاناة متعدّدة الأوجه. حصار مجتمعي وسلطة ذكورية ولصوصية من أخ يستولي على ميراثها، ومرض نادر ينتقص من كينونتها، ووحدة غياب صديقاتها. إنها مغتربة في وطنها ومحاصرة بنظرة المجتمع التي لا تراها امرأة كاملة تستحق زواجاً كاملاً! في لندن تتعرف بمغترب آخر من باكستان يعاني الخوف والضعف مثلها، فيكون احتياجهما سببَ تلاقيهما، غير أنها سرعان ما تكتشف ما يدفعها للانفصال والتورط في زيجة شاذة تثير حفيظة من يعرفونها ولا تمنحها سوى إقامة شرعية.

تنتهي الرواية، ولا تنتهي حكاياتها، بل تظلُّ مفتوحة على احتمالات لا نهائية، وأسئلة قاسية، وتظلّ رحلة الاغتراب والبحث عن الحب والحرية قائمة، ورحلة أخرى للبحث عن الذكريات، مع حقيقة جلية تقول إننا لا نهرب من أوطاننا، بل نحملها معنا شئنا أم أبينا، نحملها تحت جلودنا، في أسمائنا وثقافاتنا ولغاتنا وأفكارنا المتجذّرة، وتجارب الطفولة التي شكّلت شخصياتنا، وإنّ التغيير لا يجلب جلباً، إنما يغرس جيلاً فجيل.


* روائي من مصر

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows