باريس ضد التنزّه... شمس لم يعد ينتظرها أحد
Arab
5 hours ago
share

في اللغة الفرنسية، هناك اسم فاعل مميز، وهو Flaneur. كلمة يقال إنها ظهرت منتصف القرن التاسع عشر، وتعني بالعربية "المتنزه". لكن المعنى العربي ليس دقيقاً، كون الكلمة تشير إلى من يتنزه في المدينة (باريس في حالتنا)، ويتأمل شوارعها وناسها، ويقف أمام واجهات المحلات يتخيلُ نفسه يأكل الجبن أو يرتدي الأزياء الجديدة.

تشير إحصائيات عديدة إلى أن درجات الحرارة في المدينة نهاية القرن التاسع عشر بلغت 38 درجة مئوية، وبدأت بعدها بأيام بالانخفاض. أما حالياً، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ومع تزايد موجات الحرارة بسبب تغير المناخ، فقد أصبح الحرّ يمتدّ لعدة أسابيع، مهدّداً المدينة غير المؤهلة إلى احتمال حرّ كهذا. ما يطرحُ ذلك سؤالاً حول المتنزهين: هل يمكن لهم الاستمرار متجوّلينَ في الشوارع؟ يضاف إليها أيضاً أسئلة من قبيل: هل البيوت مجهزة لمقارعة الحرّ؟ والأهم، هل يمكن بكل بساطة السباحة في نهر السين؟

باختصار، النزهات في الصيف في باريس المدينة، لم تعد أمراً محبباً بسبب ارتفاع درجات الحرارة التي تجاوزت 35 درجة مئوية، ووصل عدد القتلى نتيجة هذا إلى أكثر من 200، فضلاً عن ضرورة الاستغناء عن اللباس والأزياء للتخفف من وطأة الحرّ. وهذه أول إشكالية، فالأزياء عدّةُ المُتنزهِ في الشارع، فكما يراقب من حوله، هو يُراقب أيضاً.

الأشد إحباطاً هو ندرة الأماكن المكيفة، فالتراسات، أي المقاهي الممتدة إلى الرصيف، يمنع فيها التكييف، لأسباب بيئية واقتصاديّة، وأيضاً جمالية. هذا المنع يمتد إلى المنازل التقليدية، المعروفة بـHaussmannian، فالمكيفات التقليدية داخل المنزل، تلك الملصوقة بالجدران، ممنوعة، كون قطعها يجب أن توضع خارج البناء، ما يشوه شكل المدينة التي يُنظر إليها بوصفها عملاً فنياً. من ثم، لا مكيفات في المنازل، حتى تلك المتحركة المنزلية ذات الأنبوب الذي يدفع الهواء الساخن "خارجاً" قد تمنع أيضاً.

إذاً، لا مفرّ من الحرّ والاحتباس الحراري؛ فالمنزل ليس "آمناً"، ولا الشارع أيضاً، لكن هناك المجمعات التجارية (Mall)، تلك التي يُنظر إليها بنوع من الازدراء كونها تحشر البشر ضمن نظام استهلاكي. والأهم، مَن في باريس يفضل أن يُحبس في بناء مكيف عوضاً عن استكشاف مدينة الأنوار؟

الحرّ يدفع أيضاً بجرذان المدينة إلى السطح، خصوصاً أنه يسرّع تعفن النفايات في الشارع، لتصبح بعض الزوايا والأماكن "نظاماً بيئياً عفناً متكاملاً"، لكن هناك غواية قديمة في باريس لمواجهة الحر، غواية تحمل أخطاراً عدة، حاولت المدينة لعشرات السنين مواجهتها وعجزت، بل وظفتها أثناء الأولمبيات، وهي نهر السين، الذي لا داعي للحديث عن شدة تلوثه.

أصرّ العديد من رؤساء فرنسا ومحافظي باريس على إتاحة السباحة فيه قانونياً، وهذا ما حصل أثناء الأولمبيات. خلال الأسبوع الماضي، أعلنت بلدية باريس افتتاح أماكن للسباحة في النهر الشهير، الذي لطالما كانت ضفافه مساحة للاسترخاء، ومياهه تغوي بعض الصيادين باستخدام المغناطيس، أولئك الذين يبحثون في قاعه عن كنوز لم يجدوا منها شيئاً سوى دراجات قديمة اعتلاها الصدأ.

افتتحت أماكن للسباحة في النهر، بعد أكثر من 100 عام من المنع. وما زال الحذر يرافق كثيرين، ويعود إلى الذاكرة فوراً كيف وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالسباحة في السين أثناء الأولمبيات ولم يفعل. أقيمت مسابقات السباحة في النهر، وبدأت بعدها حرب الأخبار الكاذبة، هل أصيب 25 رياضياً بالمرض بعد السباحة بالنهر أم لا؟

أصبح تغير المناخ ذا أثر واضح على المدينة، بل إن فعل التنزه نفسه أصبح مهدداً مع صعوبة تفادي الحرّ ومخاوف السباحة في نهر السين. بهذا، نتجرأ على القول إن انتظار ظهور الشمس في السماء لم يعد رغبة سكان المدينة الذين اعتادوا أن يسارعوا إلى استغلال كل ثانية من وهجها؛ أما الآن، فنرى كثيرين يبحثون عن الظل في زوايا الشوارع والمقاهي، حيث الحرارة أقل ببضع درجات مما هي عليه تحت وهج الشمس المباشر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows