في عام 2003، غزت الولايات المتحدة العراق بدعوى "أسلحة الدمار الشامل". لم يكن هناك سلاح، لكن القصّة كانت جاهزة، ومدعومة بشبكة إعلامية وسياسية ضخمة. وبهذه الرواية، صُنعت شرعية لحرب دمّرت بلدًا عريقًا، قُتل فيها مئات الآلاف، ولا تزال آثارها المأساوية تتردّد في الإقليم حتى اليوم.
ورغم انكشاف الكذبة لاحقًا، لم يُحاسب أحد، ولم تكن هذه الحادثة استثناءً، بل واحدة من أوضح تجليات ما بات يُعرف بـ"حرب السرديات"، حيث لا تنتصر الحقيقة، بل تنتصر الرواية التي تُروى ببراعة. في هذا السياق، يُشير يوفال نوح هراري، في كتابه "21 درساً للقرن الحادي والعشرين"، إلى أنّ عالم اليوم تحكمه السرديات أكثر مما تحكمه الحقائق، إذ يقول: "في زمن ما بعد الحقيقة، لا يهم ما حدث فعلاً، بل كيف يُروى".
عند كلّ صراع، هناك من يُصوَّر معتديًا، وآخر ضحيةً. هناك من يُحتفى به مقاومًا، ومن يُلاحَق على أنه إرهابي. من يظهر على الشاشات بصور بطولية، ومن يُختزل في لقطات دامية بلا سياق. هذه ليست نتائج الحرب، بل نتائج الرواية التي تسبقها وتواكبها. فالصورة التي تراها، والمصطلحات الذي تُردّد، ليست بريئة أو عفوية؛ إنها جزء من سردية مُحكمة تُعيد تعريف الواقع وتوجّهه.
السردية من منظور العلاقات الدولية
السرديات ليست مجرّد أدوات تواصل، بل آليات لصياغة المعنى وتوجيه الفعل السياسي. ووفق المدرسة البنائية في العلاقات الدولية، تُبنى الهويات والأدوار والمعاني اجتماعياً من خلال الخطاب، لا من خلال المصالح المادية وحدها. الدول لا تتصرّف فقط بما تملكه من قوّة صلبة، بل بما ترويه عن نفسها: من هي؟ ما الذي تمثّله؟ ولماذا تستحق الدعم أو الخوف أو الشك؟
في هذا السياق، تصبح السردية أداة استراتيجية لإنتاج الشرعية وإعادة تعريف الواقع؛ إذ يمكن أن تجعل من الاحتلال "نزاعًا"، ومن المقاومة "إرهابًا"، ومن التدخّل العسكري "دفاعًا عن الديمقراطية".
الصورة التي تراها، والمصطلحات الذي تُردّد، ليست بريئة أو عفوية؛ إنها جزء من سردية مُحكمة تُعيد تعريف الواقع وتوجّهه
هذا المعنى عبّر عنه مساعد وزير الدفاع الأميركي للشؤون الأمنية الدولية ورئيس مجلس الاستخبارات القومية سابقًا، جوزيف ناي، وصاحب مفهوم "القوة الناعمة"، حين قال: "القوة ليست فقط فيمن يملك السلاح، بل فيمن يروي القصة". وهكذا، تتحوّل الرواية إلى سلاح ناعم يسبق الدبابة، ويصوغ المعركة في أذهان الجماهير قبل أن تبدأ ميدانيًا.
السردية أداة سلطة
ليست السردية مجرّد سرد أو تفسير، بل منظومة قادرة على صناعة الواقع وتوجيه القرارات وتشكيل الإدراك الجماعي. من خلالها تُمنح الشرعية، وتُصاغ الأخلاقيات، ويُحدّد من هو الضحية ومن هو الجلاد. السردية هي ما يحدّد من "يستحق الدفاع" ومن "يستحق العقاب"، ومن "يُرى في الإعلام" ومن "يُنسى في العتمة".
"إسرائيل السردية الخطِرة"
لم تبنِ إسرائيل سرديتها بمفردها، بل من خلال منظومة شراكة سردية معقّدة، كانت الولايات المتحدة أحد أبرز أعمدتها. فمنذ تأسيس الدولة، تَقاطعت المصالح الإسرائيلية مع حاجة واشنطن لوجود "رأس حربة ديمقراطي" في شرق أوسط مليء بالأنظمة غير الحليفة لإسرائيل، والعداء الشعبي المُتصاعد للسياسات الغربية.
السردية هي من يحدّد من "يستحق الدفاع" ومن "يستحق العقاب"، ومن "يُرى في الإعلام" ومن "يُنسى في العتمة"
لذلك قُدِّمَت إسرائيل على أنها الضحية التاريخية بعد الهولوكوست، والواحة الديمقراطية وسط "القبائل المتناحرة"، والحليف الأخلاقي والاستراتيجي في "الحرب على الإرهاب". اللوبيات الصهيونية في واشنطن، وجماعات الضغط داخل الكونغرس، ومراكز الأبحاث المرتبطة بالمؤسسة الأمنية الأميركية، لعبت أدواراً محورية في تمرير هذه الرواية، وربطها بثقافة أميركية تؤمن بالتفوّق الأخلاقي، وتبحث دائماً عن "حليف شبيه". لم تكن الرواية فقط من صنع إسرائيل، بل كانت (جزئياً) من حاجة أميركية إلى حليف يشبهها ويبرر أفعالها. ومن يراقب خطابات بنيامين نتنياهو، يكتشف أنه لا يخاطب الداخل الإسرائيلي فقط، بل يُصمّم خطابه ليكون مفهومًا ومؤثّراً في واشنطن تحديداً.
من لا يُجيد رواية قصته، يبقى معزولاً ومكشوفاً في ساحة صراع مفتوحة
في خطابه الشهير أمام الكونغرس، لم يكن يطالب بدعم سياسي أو عسكري فحسب، بل كان يقدّم سردية كاملة تُطمئن المشرّعين الأميركيين إلى أنّ دعم إسرائيل دفاع عن "الحضارة الغربية" ذاتها. يستخدم نتنياهو مفردات مستعارة من التاريخ الأميركي: "الحرية"، "الأمن"، "التهديد الوجودي"، "محور الشر"، ليجعل من كلّ خصم لإسرائيل تهديداً وجودياً مشتركاً. هو لا يخوض معارك إعلامية، بل معارك سردية محسوبة، يفهم جمهورها، ومفاتيحها، ونقاط ضعفها.
إيران... العدو السردي النموذجي
في السنوات الأخيرة، برزت إيران بوصفها العدو المفضّل في السردية الإسرائيلية الأميركية المشتركة. الرواية هنا لا تتحدّث فقط عن خلاف سياسي، بل عن "خطر وجودي"، و"نظام عدمي"، و"إمبراطورية مظلمة تسعى لمحو النور"، وفقاً لتوصيفات نتنياهو المتكرّرة. في المقابل، ورغم كلّ الوقائع السياسية والعسكرية، لم تستطع إيران أن تُقدّم رواية إقليمية أو دولية جذابة. سرديتها محصورة في خطاب أيديولوجي، غالباً ما يُفسَّر خارج حدود التأثير، ويُستغل بسهولة لصناعة صورة العدو. وهنا تتجلّى واحدة من أخطر نتائج حرب السرديات: من لا يُجيد رواية قصته، يبقى معزولاً ومكشوفاً في ساحة صراع مفتوحة.
لماذا تنجح سردية وتفشل أخرى؟
في الحالة الإسرائيلية، تبرز عوامل عدّة، أبرزها وحدة الخطاب والأدوات الضخمة التي تدعم هذه السردية؛ من هوليوود إلى مراكز الأبحاث، ومن المؤسسات الإعلامية إلى غرف المشرعين في الكونغرس، حيث تتكرّر الرسالة عبر مستويات متعدّدة لتعزيز شرعيتها وانتشارها.
لم يعد يكفي أن تكون على حق، بل عليك أن تجعل حقك مسموعًا، مُقنعًا، ومؤثّرًا
ولا يمكن إغفال الذكاء العاطفي في توظيف معاناة اليهود عبر التاريخ، ما يخلق تعاطفاً دائماً ومستمراً، ويقلّل من تأثير أيّ نقد يوجّه إلى جرائم أو سياسات الحاضر. في المقابل، غالباً ما تتفتّت السرديات الأخرى في خضم النزاعات الداخلية، وتغرق في خطاب متذبذب بين الشعبوية والعاطفة أو التبرير، من دون القدرة على اكتشاف نقاط قوتها الحقيقية أو فهم لغة ومفردات العالم الخارجي.
معركة الوجود الرمزي
أصبحت السرديات اليوم ساحة حرب، لم يعد يكفي أن تكون على حقٍّ، بل عليك أن تجعل حقّك مسموعاً، مُقنعاً، ومؤثّراً. إنها معركة الذاكرة ضدّ النسيان، والكلمة ضدّ التزييف، والوجود ضدّ الإلغاء. قد تكسب معركة بالرصاص، لكنك تخسر الحرب إذا خسرت سرديتها. هذا هو الدرس الأهم من هزائمنا. فهل سنتعلّمه نحن أيضاً؟ في النهاية، لا يكتب التاريخ المنتصرون، بل من يملك القدرة على الرواية وإقناع العالم بها. وهذا بالضبط ما يجعل حرب السرديات أخطر حروب العصر.
Related News


