غزّة أولاً وأخيراً
Arab
4 days ago
share

غزّة أولاً وأخيراً، لأن قضيتها اليوم ليست قضية الغزّيين وحدهم فقط، وإنما هي قضية الإنسانية جمعاء، قضية الضمير الإنساني الذي مات عند كثيرين من بني البشر الذين طبّعوا مع الجرائم الإسرائيلية البشعة التي تُرتكب يومياً على الهواء مباشرة ضد شعب أعزل، محاصر، مُجوَّع، يخضع لقصف همجي بكل أنواع الصواريخ المتطوّرة والمدمّرة والقنابل الذكية والغبية القاتلة أمام تواطؤ حكومات العالم الغربي وصمت أغلبية بقية حكومات العالم.

"غزّة أولاً"، ليس ردّاً على أصحاب شعار "تازة قبل غزّة" في المغرب، لأن هؤلاء أتفه من أن يَلتفت المرء إليهم، بما أنهم حكموا على أنفسهم بالاصطفاف إلى جانب المجرمين والقتلة، وبذلك وضعوا أنفسهم في الجانب الخاطئ من التاريخ، "غزّة أولاً"، لأنها هي اليوم مقياس الضمير الإنساني الحي الذي استيقظ عند ملايين الأحرار وحرّك وجدان الأمم والشعوب في جميع بقاع العالم ضد الهمجية والبطش والتوحش والإبادة الجماعية والغطرسة وعدم احترام القانون الدولي وارتكاب كل أنواع الجرائم البشعة التي تخالف الطبيعة البشرية.

"تازة قبل غزّة"، شعار قديم ظهر أول مرّة في المغرب عام 2014 في مقال ترويجي لأسلوب حكم الملك محمد السادس، على صفحات مجلة تصدر بباريس، معروفة بتمجيدها أنظمة الحكم الدكتاتورية في أفريقيا. السياق الذي ورد فيه هذا الشعار هو الدفاع عن سياسة الانكفاء على شؤون المغرب الداخلية التي ما فتئ محمد السادس ينهجها منذ تولّيه الحكم قبل أكثر من ربع قرن، والابتعاد أو التخلي كلياً عن الاهتمام بالقضايا الخارجية، خصوصاً إذا كانت لا تجلب سوى وجع الرأس أو تضع الدولة في مواقف حرجة مع حلفائها وأصدقائها، أو قد ترتدّ سلباً على بعض مصالحها حتى لو كانت تافهة وغير ذات قيمة كبيرة.

تحولت الكوفية الفلسطينية إلى شعار للرفض والمقاومة في العالم

هذا الشعار الذي أصبح اليوم مثار جدل واسع بين أنصار القضية الفلسطينية في المغرب، وهم يعدّون بالملايين، وبين مروجين أطروحة "المغرب أولاً"، طرح قبل أكثر من عقد لتفسير رد الفعل المغربي الذي وقف متفرّجاً على العدوان الإسرائيلي عام 2014. وعندما يرفع اليوم، فليس من أجل الدفاع عن قضايا الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي التي تعاني الفقر والبطالة والتهميش، وإنما لتبرير موقف السلطات المغربية السلبي من حرب الإبادة التي ترتكبها دولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ومن أجل التغطية على التواطؤ الرسمي المغربي مع الكيان الصهيوني، وأيضاً للدفاع عن استمرار التطبيع مع الكيان الغاصب والمجرم الذي يحتل فلسطين ويبيد شعبها في غزّة منذ أكثر من 21 شهراً.

يسعى من يروّجون هذا الشعار الفارغ إلى إثارة الجدل حوله وتحويله إلى نقاش اجتماعي وسياسي داخل المغرب بين من يدعون إلى تفضيل الاهتمام بالشأن الداخلي والانكباب على هموم الشعب المغربي، وبين عشرات الآلاف الذين ينزلون إلى الشوارع المغربية أسبوعياً، وباستمرار منذ بدء العدان الصهيوني على غزّة، في مظاهرات ومسيرات حاشدة لنصرة أهل غزّة وقضية فلسطين. حجّة أولئك أنه بدلاً من صرف الجهد والوقت في الدفاع عن قضايا بعيدة عن المغرب، مثل القضية الفلسطينية، الأحرى الاهتمام بقضايا التنمية المحلية التي تخدم الشعب المغربي، ومن بينهم من يدعون إلى عدم الثقة في من يناصرون الشعب الفلسطيني، كونهم لا يفعلون هذا إلا لتحقيق غايات ومصالح سياسية، مستغلين تعاطف الناس البسطاء مع مأساة سكان غزّة وأهل فلسطين عموماً. وفي هذا الطرح مغالطة مفضوحة، وتضليل كبير للرأي العام داخل المغرب وخارجه، أولاً، لأنه يضع المغربي البسيط أمام ترتيب الأولويات بين همّه وهمِّ من يناصر. وفوق هذا يجعل هذا الترتيب مقياساً لوطنيّته، يشكّكه في ولائه لبلاده ومدى ارتباطه بهموم شعبه. بل إن متصهينين، ممن لهم أجندات الدفاع عن التغلغل الصهيوني داخل المجتمع المغربي، يعملون على إحداث انقسام فكري غير موجود أصلاً على أرض الواقع بين من يعتبرونهم "وطنيين" بين قوسين ومن يصفونهم بسخرية بـ"الكوفيين" نسبة إلى الكوفية الفلسطينية، وهم لا يدركون أو لا يريدون إدراك أن الكوفية الفلسطينية التي يستهزئون ممن يعتمرها تحولت إلى شعار للرفض والمقاومة في العالم.

قضية غزّة هي قضية كل القلوب الحية الصادقة والضمائر المستيقظة والعقول الراجحة التي تميّز بين الحق والباطل

هدف هذا الشعار الذي يخفي نفاقاً سياسياً كبيراً ليس هو الدفاع عن قضايا مغربية، وإنما شقّ صفّ الشعب المغربي المعروف تاريخياً بمناصرته القضية الفلسطينية، ولذلك لم يأت من فراغ، وإنما جاء في سياق التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي اصطدم مع الرفض الشعبي المغربي. وليست خطورته فقط في معناه الواضح الذي يدعو ظاهرياً إلى تغليب القضايا الوطنية على غيرها من القضايا، وإنما في تحوّله إلى صرخة احتجاج رمزي ضد الدولة المغربية، لأنه يذكّر المغربي المهمّش بهمومه ومشكلاته المتراكمة التي لا دخل لغزّة فيها، ومن هنا بلادة من وضعوه وقصر نظر من يرفعونه ويروّجونه.

من يبرّرون رفعهم شعار "تازة قبل غزّة" بوطنيتهم "الزائدة" ينسون أن غزّة ليست المسؤولة عن الفقر والبؤس والتهميش الذي تعاني منه منطقة تازة المغربية، وأن هذا الشعار الذي رفع قبل أكثر من عشر سنوات لم يغيّر من واقع تازة أي شيء، ففي الإحصاء الرسمي الذي نظّمته السلطات المغربية عام 2024 جاء تصنيف تازة ضمن الأقاليم المغربية الأكثر فقراً، فما دخل أهل غزّة في فقر أهل تازة وبؤسهم؟!

نعم، غزّة أولاً وأخيراً، لأنها اليوم في قلب كل القضايا الإنسانية العادلة، قضايا الحق والحرية والكرامة مقابل أبشع ما أنجبته البشرية من بشر وما أنتجه العقل الشيطاني من جرائم. قضية غزّة هي قضية الحرية ضد الفاشية، وقضية الكرامة ضد الذل والهوان والاستعباد، وقضية المروءة ضد الحقارة والخساسة، وقضية النبل ضد المهانة والوضاعة. قضية غزّة هي قضية كل القلوب الحية الصادقة والضمائر المستيقظة والعقول الراجحة التي تميّز بين الحق والباطل. هي قضية العدالة والانتماء للأرض والوطنية والمقاومة، وهذه هي قضايا كل حر في أرض الله الواسعة، وبالأحرى إذا كان مغربياً حرّاً أو مغربية حرّة تعتبر قضية فلسطين ونضال شعبها التاريخي جزءاً من هويتها ومن إنسانيتها ومن كرامتها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows