
بالنسبة إلى عموم الأميركيين، فإن مغنّي البوب والكونتري بروس سبرينغستين (Bruce Springsteen) هو فنان الشعب. لقبه "المعلّم" (The Boss)، لم ينله لتعاليه على الناس أو ترفّعه عن الالتقاء بهم، وإنما لإنجازه مهام قائد الفرقة الموسيقية التي أسّسها بنفسه، وعمل مديرَ أعمالها.
ففي زمن البدايات، قبل أن يحظى بالشهرة، كان يقدّم الحفلات في الحانات المحاذية للطرقات السريعة، وهو من كان يجمع البقشيش من المرتادين بُعيد العرض، ليوزّعه ويضيفه على أجور عازفيه المرافقين.
من القصص التي تُروى عن قربه من الشعب، أنه عندما ذهب لاصطحاب ابنه من إحدى المدارس في ولاية بوسطن الأميركية، وبينما كان يمرّ بأحد الشوارع، إذا بعازف جوّال يؤدّي على غيتاره واحدة من أغانيه، فتوقّف ليستمع إليه، ثم شرع في الحديث معه. ما إن تعرّف العازف على عابر الطريق، لم يُصدّق عينيه.
حكى له أن اسمه غونزالِس، من الأرجنتين، وأنه من معجبيه المخلصين، وكيف أنه، ذات مرّة، تكبّد عناء رحلة طويلة، مضنية ومكلفة، في سبيل حضور عرض له من ضمن جولة له في أنحاء أميركا اللاتينية، ليصل متأخراً ويفوته الحفل. تأثّر سبرينغستين بالقصة، فقدم لغونزالِس مبلغاً وفيراً من المال، تعويضاً له عن تلك الخسارة وخيبة الأمل.
بمرور عقدين أو ثلاثة، تحديداً سنة 2014، وفي تجسيد حيّ لأسطورة الأميركي العصامي، تمكّن "المعلّم" من جمع قرابة 150 مليون دولار، له ولعازفيه، إثر إطلاقه ألبوم The River Collection، ثم انطلاقه بجولة فنية استمرّت عاماً كاملاً. أما اليوم، فها هو يُطلق تشكيلة جديدة من أغانٍ قديمة، ضمن علبة تحوي سبع أسطوانات، سبق له أن سجّلها ولم يصدرها، بل بقيت حبيسة علب الأشرطة وعلى رفوف أرشيف شركة كولومبيا الأميركية العملاقة للإنتاج الفني، تعود إلى فترة بين 1983 و2018. ولأجل الترويج للحدث الموسيقي، طُرحت ستة من تراكات الألبوم فرادى على دفعات، وعلى مدى الشهرين الماضيين.
سبرينغستين، ذو الإنتاج الغنائي الغزير، اعتاد أن يمضي ساعات طويلة، لأيام وشهور عديدة، في غرف الاستوديو، يُسجّل برفقة أعضاء فرقته ارتجالات وخربشات موسيقية، وأفكاراً أوليّة قد تتبلور، فتتمخّض عنها أغانٍ، عسى أن تُذاع في المستقبل، ما يجعل من تراكم فرط نشاطه الفني معيناً متجدّداً لإصدار المختارات (Compilation)؛ فالألبوم الجديد، المعنون "الألبومات الضائعة" (Tracks II: The Lost Album)، ما هو إلا استتباع لآخر كان قد صدر بالعنوان نفسه، إنما من دون ترقيم، سنة 1998، وضمّ تشكيلة مشابهة من التسجيلات المهملة أو المُنسّقة التي لم تدرك أسماع الناس.
في ما يبدو، فإنّ استعادة مواد من الأرشيف ليُعاد طرحها في الأسواق، مع المحافظة على طابع الغضاضة وعدم الاكتمال، وتبنّي مشهدية "ما وراء الكواليس" لتكون بمثابة شكل فنيّ وعبوة تسويقية للإصدار، أمست موضة ما انفكت تشيع بين الأعلام الموسيقية المُخضرَمة.
في اليوم نفسه من تاريخ صدور (Tracks: II)، أطلقت فرقة موتورهيد (Motörhead) مختارات بعنوان "أشرطة مانتي كور" (The Manticore Tapes)، استعادت من خلالها مجموعة تسجيلات تعود إلى زمن البدايات، منتصف سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك، سنة 2021، أنجز المخرج النيوزيلندي بيتر جاكسون الماسترنغ ومونتاج ثماني ساعات متواصلة من جلسات تسجيل فرقة ذا بيتلز، لتُعرض سلسلة وثائقيةً بعنوان The Beatles: Get Back على منصة ديزني بلس.
ما يُميّز مختارات سبرينغستين الأخيرة، هو اكتمال تراكاتها بوصفها أغاني ناضجة، ذات شكل ومضمون مُنجز، وليست محض تجارب تظلّ دون مستوى التكوين. بالإضافة إلى أنها تتجاوز في استهدافها جمهور المعجبين، لتبدو كما لو أنها تُقدَّم، من خلال عدّة أسطوانات منفصلة ومستقلة، ما يُشبه السيرة الذاتية؛ فقد صُنّف المحتوى بحسب مواضيع وفئات، تُؤرّخ لمجهودات الفنان وتفرّع إبداعاته، لجهة الأساليب والأجناس الموسيقية. ما عدا الأسطوانة ذات الترتيب السادس والمعنونة "عالم مثالي" (Perfect World) التي تضمّ بحد ذاتها أكثر من شخصية موسيقية، جُمعت بسيولة دونما اتساق.
من بين تراكات الأسطوانة "الكساد الكبير" (The Great Depression)، الذي يستعير اسم حقبة قاتمة عنواناً، حين أصيبت البلاد خلال ثلاثينيات القرن الماضي بأسوأ كارثة اقتصادية في تاريخها. ترسو الأغنية، من ناحية الشكل، ضمن الإطار التقليدي لموسيقى الكونتري. نُظّمت على إيقاعٍ حيوي، يجعلها من فئة أغاني "السفر بالسيارة" (Cruising Music)، ووزِّعت على طيف واسع ومتجانس من الآلات الفولكلورية، كالغيتار الأكوستي، والبيانو، مع بطانة من وتريات الكمان والتشيلّو. أما نص الأشعار فتغلب عليه الميلانكوليا المميّزة للموسيقى الشعبية الأميركية، السوداء منها (Blues) والبيضاء (Country). يتحدّث عن الندم على ما فات، رثاء الماضي واجترار الذكريات.
لاستحضار رمزية "الكساد الكبير"، بهدف استثارة الوعي الجمعي الأميركي، سوابقُ لدى سبرينغستين، إذ تأخذ هذه الاشارة بعداً نقدياً إزاء غياب العدالة الاجتماعية في ظل الرأسمالية المتغوّلة. ففي ألبومه "شبح توم جود" (The Ghost of Tom Joad)، الصادر سنة 1995، والذي يستعير اسمه من بطل رواية "عناقيد الغضب" (The Grapes of Wrath) للكاتب الأميركي جون شتاينبك، ذلك الكادح الذي واجه تسلّط البنوك، ليبدأ رحلة بحث عن عمل في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة سنة 1939.
ولعله هنا، يكمن العامل الحاسم الذي جعل من "المعلّم" يحظى بمنزلة فنّان الشعب، وهو تماهيه السياسي الاجتماعي مع هموم الإنسان العادي، الطامح والمكافح لأجل نيل الحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانية، من دون الاتّكال على امتيازات طبقية، أو عرقية، أو استنسابية. ولعل ذلك يعود إلى نشأته الأسرية البسيطة محدودة الدخل، حين كان أبوه يعمل سائقَ باص، وأمّه سكرتيرة، فلم يُفقده نجاحه الذاكرة، ولا المقدرة على الغناء بصوت الكادحين.

Related News


