
وسط صخب موسيقي يقترب من الضجيج، وهيمنة لأشكال البوب التي لا تكاد تتأثر باختلاف اللغات، ينمو ببطء جيل من الشباب، الذين يبذلون جهدهم في اكتشاف ما يعرف بطرب عصر النهضة، والاستمتاع بكل جماليات هذا الطرب العتيق.
جيل جديد من الشباب العربي من خلف الشاشات وصفحات الإنترنت، لا يهتم بأغاني الترند، ولا يكترث لصدور ألبومات نجوم حفلات الساحل الشمالي في مصر، بل لا يكاد يمنح أي وقت لغناء النصف الثاني من القرن العشرين، فلا ينشغل بفايزة أحمد، ولا وردة الجزائرية، ولا عبد الحليم حافظ، ولا حتى بأم كلثوم الستينيات، أو عبد الوهاب الخمسينيات.
ينحصر اختيار واهتمام هذا الجيل في عودة إلى الوراء لأكثر من 100 سنة، حيث الأدوار والموشحات، والوصلات المقامية، والأسطوانات القديمة، وأحاديث لا تتناهى، عن عبده الحمولي، ومحمد عثمان، وعبد الرحيم المسلوب، وبنقاشات تحتد حول مستحق لقب "المطرب الأول" أو "نجم الجيل" بلغة عصرنا.
وإذا كانت نقاشات الشباب تشتعل حول عمرو دياب، أو محمد منير، أو علي الحجار، فإن فريقاً آخر يجلس في ركن طربي قصي، ليناقش ويجادل ويحتد، حول الشيخ يوسف المنيلاوي، وعبد الحي أفندي حلمي، وصالح أفندي عبد الحي، والمفاضلة بين أدوار إبراهيم القباني وداوود حسني، بعد أن يسّر الإنترنت الوصول إلى تسجيلات القدماء، الذين رحل بعضهم قبل 100 عام أو يزيد.
ظاهرة عودة الشباب، من الفئة العمرية بين 15 و30 عاماً، إلى ذلك الزمن البعيد، لم تأتِ مدفوعةً بالحنين، بل بحسّ فني جمالي خالص، وبشغف صادق نحو تجربة سمعية لم تعد الأغنية الحديثة تمنحها. هؤلاء الشباب لم يجدوا ضالّتهم في الموجات المتتابعة من الغناء الاستهلاكي، فأداروا ظهورهم لما بعد الثلاثينيات، وتوجّهوا بأذن مرهفة إلى الفونوغراف، وإلى الآثار الصوتية التي تركها يوسف المنيلاوي ومن جايله.
لم يكن الدافع بحثاً عن معاني الكلمات، ولا انسياقاً خلف القصائد، بل بحثاً عن "السلطة الطربية"، أو لحظة الأخذ اللحني التي تدخل المستمع المنصت في حالة من التماهي الكلي مع الصوت، والانجذاب شبه الصوفي إلى المقامات، والتلاوين، والتطريب المتمهّل.
ما يجذب هؤلاء الشباب إلى طرب عصر النهضة ليس نوستالجياً، فليس لهم ذكريات شخصية مع أساطين الطرب القديم، وليس كذلك الدفاع عن التراث، لأنهم من الأصل لا يتبنون موقفاً فكرياً أو أيديولوجياً، بل انجذب هؤلاء الشباب إلى الجماليات الصوتية المحضة: الإيقاع المتروّي، والتمكّن المقامي، والإلقاء اللحني، والتجليات الصوتية الفردية التي تمنح المغني استقلالاً كبيراً في الأداء، بعيداً عن النمطية والاقتصاد الفني للأغنية الحديثة. يذهب الشاب اليوم إلى المنيلاوي ليسمع كيف يُشيِّد المطرب جملة موسيقية كاملة من كلمة واحدة، وكيف يمكن للارتجال أن يتحوّل إلى شعر لحني خالص.
ومن أهم تلك الجماليات: الارتجال الإبداعي، الذي لا يُغادر المقام قبل أن يجري في مضماره، ويحلّق في أجوائه، كما في أداء المنيلاوي لبعض القصائد، أو أداء عبد الحي حلمي لبعض الأدوار؛ فهذا النمط من الغناء الحر، يمنح الصوت مجالاً للتمدد والتقلّص، كأنه كائن حي يتنفس ويئن.
يُجمع هؤلاء الشباب على أن غايتهم الوحيدة من تسجيلات عصر النهضة هي الفوز باللحظة الطربية الخالصة، إذ يبلغ المطرب والمستمع ذروة مشتركة الانسجام، والانصهار اللحني، كما في تسجيلات صالح عبد الحي، وهو يُكرّر عبارات الهنك، ويتبادلها برشاقة مع فرقة المرددين، أو تسجيلات سليمان أبو داود التي يمطر المستمع فيها بقفلات متنوّعة تتفجر طرباً وسلطنة. الطرب إذن هدف وحيد، لا المعاني، ولا الذكريات، ولا المقدمات الموسيقية الأوركسترالية.
يعيش هواة الطرب المحض في عالم أقدم، لكنهم يخدمون هوايتهم بالتقنيات الحديثة، ويصلون إلى غاياتهم بالإنترنت، حيث المواقع الموسيقية، والمنتديات التراثية، والهواة المشتهرون، وأصحاب المكتبات الكبيرة من الأسطوانات.
وعلى ألسنة هذا الجيل الجديد من المستمعين، ومن غير دراية موسيقية أكاديمية، تنبعث المصطلحات القديمة: الهنك، والعفق، والعُرب، والدور، والخانة، والغطاء، والإرسال، والتوقيع... وكلها مصطلحات باتت جزءاً من حوارات يومية على صفحات "فيسبوك" وقنوات "يوتيوب"، وفي مجموعات صغيرة لكنها نشطة، يتبادل الشباب تسجيلات نادرة، يناقشون دقائق الفرق بين أداء المنيلاوي وعبد الحي حلمي على نفس القصيدة، أو أداء صالح عبد الحي لنفس الدور في تسجيلين مختلفين، أحدهما لشركة بيضافون، والآخر لشركة كولومبيا، يضعون مقارنات بين تسجيلات الأسطوانة الشمعية، ويرصدون أخطاء العازفين أو لحظات الإبداع اللحظي.
يقول الطبيب محمد الباز، أحد أبرز جامعي أسطوانات الغناء القديم في مصر، إنه حين بدأ رحلة جمع التراث الغنائي، لم يكن يشاركه في هوايته إلا عدد قليل جداً من محبي الطرب، لكن مع انتشار الإنترنت، وبداية تدشين المنتديات الموسيقية، اتسعت رقعة المهتمين بطرب عصر النهضة، لا سيما بعد أن ازداد المعروض من التسجيلات على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. يرجع الباز ذلك إلى الجهود التي بذلها أصحاب المكتبات الموسيقية لتحويل الأسطوانات إلى نسخ رقمية، وإتاحتها على منصات نشر مختلفة، ويؤكد أنه نشر محتويات ما يقرب من ثلاثة آلاف أسطوانة في منتدى موسيقي شهير، لكن الرجل يبدي تعجبه من حجم إقبال الشباب وصغار السن على هذا اللون الغنائي.
يضيف: "هذا شيء لم يكن يخطر بالبال، فالمعتاد من الشباب والمراهقين أنهم لا يصبرون على الإنصات الهادئ المطول، ويشعرون بالملل والرتابة مع كثير من أغاني الستينيات والسبعينيات، واليوم ينصت آلاف الهواة إلى تسجيلات صالح عبد الحي، وسيد الصفتي، ومنيرة المهدية، وفتحية أحمد، وعباس البليدي. ويبذلون جهوداً كبيرة في تنقية محتوى الأسطوانات، وإزالة التشويش من التسجيل".
تتعدد مظاهر اهتمام الشباب بطرب الأسطوانات، ومن أهم تلك المظاهر: إنشاء قنوات متخصصة على "يوتيوب" لإعادة رفع تسجيلات الأسطوانات النادرة، وتدشين صفحات على "فيسبوك" تُحلّل تسجيلات الفونوغراف بأساليب ميسرة وشعبية، وتنظيم مجالس استماع جماعية، يلتقي فيها بعض الهواة للاستمتاع بتسجيلات مختارة بعناية، وصولاً إلى محاولات بدائية لأداء الموشحات والقصائد بأسلوب طربي يُحاكي أداء المنيلاوي وعبد الحي حلمي.
لكن السؤال الأهم في هذا السياق حتماً سيكون عن الأسباب أو الدوافع التي تغري فتى عمره 18 عاماً، بالإنصات إلى وصلة مقامية كاملة، تتضمن تقاسيم وليالي وموالاً وقصيدة ودوراً، بصوت صالح عبد الحي؟ وما الذي يدفعه إلى جمع 19 دوراً من غناء أم كلثوم؟ والمفاضلة بين ما لحنه داود حسني منها وما لحنه زكريا أحمد؟ وما الذي يجعل شاباً جامعياً يهيم في تتبع تسجيلات محمد عبد الوهاب في العشرينيات والثلاثينيات ويدير ظهره لأعمال صدرت في الخمسينيات أو الستينيات؟
إنها التجربة الطربية المحضة التي يفتقدها في أغنية لا تتجاوز دقيقتين، وتُلحن وفق قوالب جاهزة. إنها الذائقة التي ترفض أن تُختزل، لأنها تشتاق إلى الاسترسال، وإلى غناء يبدأ، لكنه لا يتناهى، إذ إن بنيته ليست مرسومة رسماً كاملاً مسبقاً، بل لا شيء مرسوماً منها إلا البداية، ومن البداية تبدأ عملية توالد، تكون فيها الجملة سبباً منطقياً للجملة التي تليها، وتكون التالية سبباً للتي تليها، لكن هذه العملية المعقدة تجرى وفق نسق ارتجالي، لا ينضب فيه سيل المفاجآت، فالجملة جديدة، لكنها ابنة لما قبلها، وهي أم وأب لما بعدها.
والمستمع حين ينتبه إلى هذه العملية المتسمة بالتركيب والمفاجآت والسير المنطقي، يتضاعف تحصيله للجماليات الغنائية بصورة مذهلة، فتتضاعف لذته بالاستماع. وعندما يجرب أن يبحث عن تلك النشوة في غناء أحدث، لا يجد غايته، فيزداد تعلقه بالكنز القديم، وتأخذه دوامات الطرب إلى عوالم الأسطوانة والفونوغراف ومجالس الاستماع.
كما أن بعض هؤلاء الشباب وجد في هذه العودة شكلاً من أشكال المقاومة الفنية، ليس بمعناها الأيديولوجي، أو الأخلاقي، لكن بمعناها الفني الصرف: مقاومة التفاهة، والسرعة، والاستسهال، والارتباط بصخب الإيقاع. إنهم ينسجون علاقتهم الشخصية مع الأصوات التي سبقتهم بقرن كامل، لا ليعيدوا إنتاجها، بل ليفهموا أنفسهم من خلالها، وليرتّبوا حساسيتهم، ويُعيدوا تعريف ما تعنيه الموسيقى.
ليس الطرب الذي يقدمه المنيلاوي وأقرانه مجرد غناء، بل خطاب صوتي شامل، فيه هندسة مقامية، وعاطفة لا تصرخ، وأداء فردي لا يقام على تدوين اللحن، بل يصنعه لحظةً بلحظة. إنهم يقدمون طرباً يُعاش لا يُستهلَك، ويشترك فيه المستمع بقدر اشتراك المُغني.

Related News
