
تحيّزٌ نقدي وثقافي ظل متجذراً لقرون: أنَّ الأدب العظيم لا يُكتب إلا من زاوية "الرجل المفكر"، بينما يُختزل أدب المرأة في العاطفة، الجسد، أو العلاقة بالرجل. وهذا ليس حكماً على جودة الكتابة، بل على زاوية النظر إلى من يكتب.
كثيراً ما يُفترض، صراحة أو ضمناً، أنّ الكاتب الرجل يكتب "الأدب"، بينما تكتب المرأة عن نفسها، عن الحب، وعن الرجال الذين مرّوا في حياتها. وكأنّ الأدب، حين تكتبه امرأة، يفقد عمقه ويتحوّل إلى بوحٍ شخصي، عاطفي، قابل للتقليل. وكأنّ المرأة، حين تُمسك القلم، لا ترى العالم، بل فقط انعكاس صورتها فيه.
لكن هذا التصوّر لا يكشف عن طبيعة الأدب، بل عن هيمنة الذكر كمرجعية ثقافية. فكما مُنِح الرجل سلطة تمثيل "الإنسان"، حُوصِرت المرأة في تمثيل "الأنثى". لا يُنظر إلى الكاتبة كصوت مستقل، بل كحالة استثنائية. ولو كتبت عن الجسد، اتُّهمت بالتكرار؛ وإن كتبت عن الأفكار، قيل إنها تقلّد الرجل.
ومع ذلك، لم تتوقّف الكاتبات عن توسيع حدود السؤال. فعندما كتبت سيمون دو بوفوار "الجنس الآخر"، لم تكن تسرد تجاربها العاطفية، بل كانت تفكّك بنية وجودية كاملة فُرضت على المرأة من خارجها. تقول في افتتاحية كتابها بوضوح: "لا يُولد المرء امرأة، بل يُصبح كذلك".
لا يُنظر إلى الكاتبة كصوت مستقل، بل كحالة استثنائية
هذا الإعلان الفلسفي لا يعبّر عن موقف فرديٍّ، بل يُفكّك جذور التمايز بين الجنسين، مُبيناً أنّ "الأنوثة" ليست قدراً بيولوجياً، بل بناءً اجتماعياً فَرَضته السلطة الذكورية على الجسد الأنثوي. وتكتب دو بوفوار أيضاً: "يُعرَّف الرجل نفسه بأنّه الإنسان… أما المرأة، فتُحدَّد بالنسبة إليه".
ولهذا، فإنّ مشروعها الفكري يبدو أشبه بإعادة تعريف الإنسان من موقع لم يُعترف به تاريخياً كجزء من الإنسانية ذاتها.
وعند نوال السعداوي، يصبح الجسد ميداناً سياسياً. فهو ليس موضوعاً شخصياً، بل ساحة تُمارَس فيها أشكال متعددة من القهر: الديني، والقانوني، والعائلي. في كتابها "المرأة والجنس"، لا تبوح السعداوي بما يُخجِل، بل تُفكّك البنية التي جعلت من المرأة خجلاً بحد ذاتها. تقول: "لقد كنتُ أنزف من داخلي، ليس دماً، بل كلمات، كلمات مرفوضة، كلمات محرّمة".
وتتابع في موضع آخر: "أخطر ما في قهر المرأة هو أن تتحوّل أدوات قهرها إلى فضائل".
فكتاباتها ليست اعترافاً، بل فضحاً. ليست اعتذاراً، بل مقاومة. وهذا، بحد ذاته، خروج على ثنائية "أدب الرجل" و"كتابة الجسد".
أما حنان الشيخ، فتكتب من مساحة بينية، حيث تندمج الذاكرة بالحكاية، والذات بالآخر. في رواية "حكاية زهرة"، نحن أمام امرأة تعيش الحرب بقدر ما تعيش الجسد. لا تُختزل إلى ضحية، ولا إلى رمز، بل تظهر بكامل تعقيدها: تخاف، ترغب، تُخطئ، تنكسر، وتتمرد. زهرة لا تكتب عن الرجال، بل عن الحرب، في داخلها وفي الخارج. تقول: "حاولت أن أفكر والصفعات تنهال على وجهي… نظرات أمي وصوتها ينهالان على وجهي… خوفاً من أن أقول الحقيقة".
في هذا المقطع، لا يُصبح الجسد موضوعاً، بل وسيط يحفظ الذاكرة والانتهاك معاً. إنّه الجسد بوصفه ساحة سرد، لا متعة أو إغراء. وقد عبّرت حنان الشيخ في أحد حواراتها عن موقفها من التصنيفات النقدية الجاهزة، قائلة: "أرفض تصنيفي ككاتبة نسوية فقط، لأن ذلك يحصر عالمي في زاوية ضيقة، بينما أكتب عن الإنسان، من موقع امرأة".
هذا الحضور الأدبي لم يقتصر على العالم العربي. فكاتبات مثل أورسولا لو غوين، في مقالاتها وأعمالها الأدبية، شكّكت في بنية الرواية الغربية التي تتبع مسار "البطل الذكر"، واقترحت أنماطاً سردية تقوم على المشاركة والتعدّد، لا على الهيمنة والمواجهة. أما إليف شافاق، فقد كتبت في أكثر من عمل عن المرأة، والصمت، والدين، والسلطة، والأمومة، من دون أن تُختزل في أدوار تقليدية أو مطالب هوياتية ضيقة.
وفي الجانب النقدي، قامت مفكرات، مثل هيلين سيكسو، بجعل الكتابة النسوية مشروعاً فلسفياً وجسدياً في آنٍ معاً. ففي مقالتها الشهيرة "ضحك الميدوزا"، دعت النساء إلى "الكتابة بالجسد"، لا بمعنى الحصر، بل بمعنى التحرّر من الكتابة الخاضعة لمقاييس الذكورة. وهنا يجدر التوقّف عند الفرق الجوهري الذي تقترحه سيكسو: أنّ الكتابة عن الجسد تعني جعله موضوعاً، بينما الكتابة بالجسد تعني جعله أداةً للخلق والمعنى والتعبير الحرّ. تقول: "على المرأة أن تكتب نفسها، أن تكتب بجسدها، أن تنقش الكتابة على جلدها… الجسد هو اللغة الأولى التي حرموها منها".
إنّها ليست كشفاً حسياً، بل خلخلة للأسلوب، وهدم لبنية الخطاب الذكوري. فالنص الجسدي، بهذا المعنى، لا يعني التطرّق إلى المحرّمات، بل رفض الانضباط اللغوي والأدبي الذي فُرض تاريخياً على الكاتبة.
كأنّ الأدب، حين تكتبه امرأة، يفقد عمقه ويتحوّل إلى بوح
لكن، وللإنصاف، لا يمكن إنكار أن بعض الكاتبات - في العالمين العربي والغربي على حدّ سواء - انحصرت كتابتهن أحياناً في موضوع الرجل، أو اختزلن الذات الأنثوية في الجسد وحده، بأسلوب أقرب إلى التكرار منه إلى المساءلة. ومع ذلك، فإن هذه الأصوات لا تُدين "الأدب النسائي" بقدر ما تُظهر تنوّعه وتعدّده، تماماً كما هو حال الأدب الذي يكتبه الرجال. فكم من كاتب كرّر موضوع الحب، أو الغواية، أو الذات المجروحة، من دون أن يُنتقص من "أدبيته"؟
وإذا كان من حق الرجل أن يكتب عن المرأة، فليس من العدل أن تُسجَن المرأة في ما يُتوقَّع منها أن تتجاوزه. فالخطأ ليس في الموضوع، بل في زاوية التلقي، وطريقة المعالجة، والغوص الجدي في النفس الإنسانية. إن الضرر لا يأتي من أن تكتب المرأة عن الرجل أو الجسد، بل من أن يُختزل أدبها كله في هذه الموضوعات، وكأنّها لا تملك سواها.
إن ما يُحسب للكاتبات ليس موضوعاتهن، بل الشجاعة في مساءلتها، وكتابة الذات من موقع كانت محرومة منه. فهن لا يكتبن فقط ليُعبّرن عن أنفسهن، بل ليقلن إن الذات النسائية أيضاً صالحة للتفكير، والتمثيل، والحكي، والفلسفة. إنهن لا يكتبن فقط من موقع الجرح، بل من موقع التأويل.
وهكذا، حين نقرأ دو بوفوار، أو نوال السعداوي، أو حنان الشيخ، لا نقرأ "أدب المرأة" في مقابل "أدب الرجل"، بل نقرأ الأدب حين يكتب نفسه من مكان مُهمَّش، متروك، مسكوت عنه. الأدب حين يوسّع ضمير المتكلم ليشمل من لم يكن يملك الكلام. لذلك، فإن المفارقة ليست في موضوع الكتابة، بل في الموقف منها. فالرجل لا يُسأل عادة لماذا يكتب عن الحب، أو لماذا يتحدث عن جسده. أما الكاتبة، فكل ما تكتبه يُقرأ كاعتراف. وكأنّ وجودها نفسه بحاجة إلى تبرير.
* كاتبة وروائية من لبنان

Related News


