في متاهة "المسيح الأندلسي"
Arab
1 week ago
share

وصفت صديقتُنا نجوى بركات رواية "المسيح الأندلسي" (المتوسّط، ميلانو، 2024) بأنها دسمة، في محاورة صاحبها، تيسير خلف، في حلقة الأربعاء الماضي من برنامج "مطالعات" على شاشة تلفزيون العربي 2. ووصفها صديقُنا عمر شبانة، في مقالةٍ في "ضفّة ثالثة"، بأنها ملحميّة، وتساءل بشأن عدد الكتب والمخطوطات التي قرأها تيسير (صديقُنا أيضاً)، لكي "يطبخَها"، بتعبيره. ولي هنا أن أجمع بين ما ذهبا إليه، نجوى وعمر، فأقول إن هذه الرواية "طبخة دسمة". وإذا ما حُسب هذا القول تقريظاً، قد نتذكّر  أن الدسم في المطبوخ غالباً ما تُحدِثه الدهون، الزائدة خصوصاً، وليسوا قليلين من لا يستطيبون الدسم في الأكل، سيّما وأن له تأثيراتٍ على الصحّة غير محمودة. وقد قرَنت نجوى، في تقديم تيسير وروايته، وصفَها ذاك بكثرة الشخصيات والأحداث، كما فعل عمر لمّا جاء على "عشرات الشخصيات التاريخية والمتخيّلة" في الرواية التي تستعيد "حضاراتٍ وأمماً". ومع صحّة هذه الإشارات ودقّتها، أتوسّل هنا الصراحة، فأقول إن الباحث والمؤرّخ صنَع في "المسيح الأندلسي" متاهةً، تُتعب قارئها الذي يجهد في ملاحقة ما يتناسل فيها من قصصٍ ومرويّاتٍ ومحكياتٍ في فضاءاتٍ وأزمنةٍ وأمكنةٍ بلا عدد، وإنْ ثمّة مركزيةٌ للراوي المتكلّم، بطل الرواية، عيسى بن محمّد، الذي يُخبره خالُه بوصيّة أمه التي قتلوها في قبو تعذيبها، أنه عربيٌّ مسلم، وهذا اسمُه، وليس خيسوس غونثالث، فيبدأ رحلة بحثٍ عن قاتل أمّه، وعن والده، في زمن إجبار مسلمي الأندلس على اعتناق المسيحيّة، بعد إنهاء حكمهم هناك.

هل يطعن وصفُ المتاهة في رواية تيسير خلف السابعة، أم أن صديقَنا يذهب فيها إلى مغامرةٍ في نسج خيوط محكيّاتٍ تُلملم روايةً كبرى عن وقائع كبرى، عن التهجير والتنكيل والمحو، يذهب إليها بتعمير بناءٍ سرديٍّ متعدّد الطبقات والإحالات والهوامش والمتون، فتجدك، أنت قارئ رحلة عيسى بن محمّد، في بحثه عن ذاته، ترحل في مطابخ أندلسيين وعثمانيين في إسطنبُل (إسطنبول) وطليطلة وغيرهما، وفي مكتباتٍ ومخطوطاتٍ وأقبيةٍ وكنائس ودواوين، وفي مصائر أشخاصٍ قلقين، هاربين، وآخرين مجرمين متخفّين. وفي أثناء هذا كله، وكثيرٍ غيره قد لا يُحصى، لا يصيرُ مهمّاً أن تعرف النهايات، فهي مرتجّة، وإنما أن تتذوّق من "الطبخة" الطيّب فيها، أقلّه لتتخفّف من فضولٍ قد يغشاك بشأن المختتم الذي سينتهي إليه بطل الرواية، وذلك لأن مقصد الرواية أن تحكي وتحكي، بلسانِه هو، فهو يتكلّم لينجو من حيرته، ليُسعفه الكلام في تجواله، في سؤاله عن أشخاصٍ يبحثُ عنهم، وعن آخرين يضيع عنهم ويضيعون عنه، وقد تعرّف إليهم في الغضون، مثل فيروزة التي أحبّها وأحبّته، ثم كانت قصتُها شديدة الدرامية والكثافة، قبل أن يلاقيها في البحر، وبعد أن يلاقيها. وهنا، يتوازى أكثر من مسارٍ في هذه الرواية "الملحمية الدسمة"، في وصفٍ جائز، فثمّة البوليسيُّ الشائق، وثمّة الدراميُّ الموشّى بآلام ذاتٍ ومجموع، عيسى بن محمّد وعموم الأندلسيين الذين وقع فيهم القهر والاضطهاد، الموريسكيين منهم وغيرِهم، وثمّة الوصفيُّ من متخيّلٍ كثير، يلتبسُ مع التاريخيّ الواقعي الحقيقي، وثمّة الوثائقيُّ التوثيقيُّ المحض. وفي الخلاصة، أو الإجمال الممكن، ثمّة الثقافيُّ العريض، فلسنا أمام روايةٍ تنهض على حكايةٍ تبدأ من ألفباء إلى ياء، في خطٍّ أو خطوطٍ متقاطعة، وإنما أمام سؤالٍ ثقافيٍّ ترميه حكاية عيسى بن محمّد، الذي يغادر اسمَه ومسيحيّته، في متنٍ حضاريٍّ مثقلٍ باشتباكات الصراع وبتنويعات السعي إلى البقاء ومقاومة كل استهداف وتعصب.

تيسير خلف وصّافٌ باذخ، أمينٌ على التاريخ، لكن ملاعب التاريخ التي تجولُ فيها مخيّلته لا تجعل من أمانته قيداً على لغته، وعلى خياراته الجمالية والتجريبية وسرديّته، وقد أدهشني عندما أخبرني بأن كل الشخصيات (يا لكثرتها واحتشاد أخبارها!) في الرواية حقيقيّة، إلا البطل الرئيسي الراوي الذي تنشغل 350 صفحة بمركزية قضيّته، خوسيس غونثالث الذي صار عيسى بن محمّد. ليتَه قال هذا لمشاهدي محاورة الروائية نجوى بركات له في "مطالعات". ثمّة مكرٌ كثيرٌ هنا، مكرُ الروائي الذي يصنع سرديّته بشأن لحظةٍ تاريخيةٍ مضت، يرى تمثيلاتٍ لها قاسية في الراهن، يقابل به مكر من مكروا في أزمنةٍ مضت، في الأندلس الغائبة. رأى تيسير التعدّد والتنوّع والاختلاف بعيني من يحدّق في حواشي التاريخ، وقد قالها لنجوى إنه استلّ تفاصيل وشخصياتٍ وحكاياتٍ لروايته من هوامش وحواشي في دراساتٍ وكتبٍ قرأها عن الأندلس بعد هزيمة المسلمين هناك. رأى ذلك كله أيضاً بقلم من يرمي في ممشى الرواية العربية خطوةً واثقةً، مُغامرة، مجرّبة... تُراه نجح وأصاب؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows